منطق القرآن بين التوصيف والدعوة والجدل مع (أهل الكتاب)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

هذا التسمية التي يبدأ بها القرآن في الدعوة والجدل والحوار مع هذا الفريق(أهل الكتاب)،لها أكثر من دلالة نستطيع أن نستلهم بعضها من وحي الآيات، ونقرأ منها على سبيل الأمثلة:

1- استمالة الطرف المدعو بلغة التقريب والإدناء، حيث ينسبه إلى العلم التاريخي، والأسبقية في تلقي الوحي عن الله، وفضيلة استقبال الرسل، بل والأكثرية منهم.

2- استدعاء روح المنهج الذي ينتمي إليه الآخر، والموروث العقدي له الذي يقطع له بالعلم، واستحقاق الأسبقية بالإيمان بهذا المنهج المكمل الموافق لما هو عليه، بل والذي يملك في معتقده وموروثه بعض الدليل على صدقه.

3- ترسيخ هذه القاعدة المشتركة لمنطلقات الحوار والدعوة، بوحدوية المصادر والتلقي من الوحي، مما يستدعي التعاون والولاء في الدعوة إلى هذا المنهج، وتبليغه للناس كافة، بدلا من الإنكار والعناد.

4- هذه الأهلية (أهل الكتاب) المدعو بها، تعني التلازم والمصاحبة، والاصطفاء الإلهي والتفضيل على العالمين”ولَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ “(الجاثية(16)).

5- إن الرسالات امتداد لبعضها البعض ومكملة كذلك، ومصدق بعضها بعضا.. وهذا مما أخذ الله به العهد والميثاق على الأنبياء من قبل وأممهم المبلغة، أن يؤمنوا بهذا المنهج الذي استوثقوا من صدقه.” وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ”[آل عمران (81)].

6- عهد الإيمان السابق الذي قطعوا به على أنفسهم، وشهدوا به، حيث كانوا يستفتحون على الكافرين بقدوم نبي يؤمنون به، ويقتلونهم قتل عاد وإرم، وقد جاءهم ما عرفوا.

7- قطعية المعرفة التي استيقنتها أنفسهم، والاستدلال بصدق العلامات والأوصاف التي كانت معلومة لديهم في الكتاب، والتي يتحققون بها كما التحقق من أبناءهم.

فهذه بعض المنطلقات التي يستميل بها القرآن طوائف أهل الكتاب ليأتوا إلى كلمة سواء بينه وبينهم، عسى نفوسهم أن تذعن للحق، وتفيء إلى أمر الله الذي علمت به.

أما الأهلية المذكورة في النداء والمكررة في الدعوة التي تتناوب بين الاستمالة والتقريب، والتذكير، والتقريع، والتهديد والوعيد، فهي أهلية المصاحبة والقيام، ولفظة (أهل) لكل فن أو علم هم أصحابه والقائمين عليه، ومنهم”أهل الكتاب”، “أهل الحديث”، “أهل الحل والعقد”… (معجم اللغة العربية المعاصرة).

وأما الكتاب: فقد ورد في القرآن على عدة معان، فورد بمعنى القرآن، وبمعنى التوراة والإنجيل في قوله”وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ”[المائدة (48)].

فالكتاب في الأولى هو (القرآن)، ، وأما في الثانيةـ فهو بمعنى (التوراة والإنجيل)، والتعريف بال (للعهد) في الأولى، و (للجنس) في الثانية..  وقال ابن عباس هو كل ما نزل قبل القرآن من الكتب ، كذلك في قوله: “وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل” (الإسراء)، فهو بمعنى التوراة.. وقد تأتي بمعنى كل ما نزل من الكتاب من قبل القرآن (التوراة والإنجيل والزبور)، كما في قوله” فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما”، وأما الحكمة فهي على قول المفسرين (النبوة). (زاد المسيرـ ابن الجوزي).

وأما (أهل الكتاب) في القرآن: فهم الذي أوتوا الكتاب من قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، و هم اليهود والنصارى على أرجح الأقوال، وإن لم يكونوا في آن الخطاب أهلا بالمعنى الحق، ولكنه على سبيل الاسم والوصف، لا على سبيل التحقق، ولذلك صنف القرآن خطابهم بعد ذلك فسماهم “أهل الكتاب” وهم عموم من نسبوا إلى الكتب المنزلة (التوراة والإنجيل) قبل النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر منهم” الذين آتيناهم الكتاب” ومعظم هؤلاء من أهل العلم بالكتاب ولذلك جاء وصفهم (المدح) على الأرجح، كمثل قوله”الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به” (البقرة)، وقوله “الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)” (البقرة)، “وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون (47) “(العنكبوت). 

لكن بعضهم أو فريقا منهم رغم العلم والمعرفة الحقة ، كما يعرفون أبنائهم، فإنهم يكتمون الحق، ويضلون بأهوائهم عن سواء السبيل. الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) (البقرة).

كذلك صنف آخر من أهل الكتاب وصفهم القرآن ب”الذين أوتوا نصيبا من الكتاب” ، وهؤلاء من دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم للتحاكم إلى التوراة في أكثر من خبر فأبوا، ومما دعاهم إليه: دلائل نبوته صلى الله عليه وسلم المذكورة في التوراة، وحكم رجم الزاني المحصن، وملة إبراهيم عليه السلام (الحنيفية) وقد ادعوا أنه عليه السلام كان يهوديا.. والنصيب هنا يعني بعضا من علم التوراة ، فنفى عنهم كمال العلم ، ونسب إليهم بعضه..

” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)” (آل عمران).

” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44)” (النساء).

” أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)” (النساء).

كذلك منهم (الربانيون والأحبار والقسيسون)، ومنهم “الراسخون في العلم منهم والمؤمنون“، ومنهم “أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون“، ومنهم الأميون الذي وصفهم القرآن” لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون“، وكذلك منهم “الذين يقرأون الكتاب من قبلك” ، وهذا مصداق قوله تعالى “إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون” (النمل).

والحديث يطول.. له بقية إن شاء الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى