تائهان (قصة قصيرة)

أحمد دسوقى مرسى | قاص من مصر

لــهثت أنفاسى وأنا أصعد السلم.. لم يبق إلا دور واحد قلبى يدق فى صدرى عنيفــاً والحرارة تتصاعد من وجهى الملتهب.. أخيراً وصلنا يا سلام يا أبا خليل.. وقفت لحظة ألملم فيها أنفاسى المبعثرة.. شددت أطراف سترتى إلى أسفل مسحت ذقنى فى عصبية وصدرى ما زال يعلو ويهبط.. سعلت فى تكلف لأسلك صوتى لأرد به على من يفتح لى الباب.. مددت أصبعى أضغط به زر الجرس.. رفعت يدى بعد هنيهة.. انتظرت قليلاً لم أسمع فى الداخل أية حركة تنم عن وجود أحد.. استبقيت سبابتى على زر الجرس مدة أطول.. فلم أسمع سوى رجع الرنين مرتدا إليّ يعلن فى ضجيج متواصل غير مبال عن خروج الأسرة.. رفعت يدي تلكأت بضع لحظات.. كأنى لا أصدق أننى سأعود.. وظِل الصمت الصفيق خلف الباب يعلن عن فراغ الداخل، والباب الموصد فى وجهي يطردني و يدفعني إلى النزول.. أحسست بكابوس الضيق يجثم على صدري كئيبا وأنا أنزل فى سرعة.. لابد أنه سافر إلى البلد مع زوجه – معلهش – لنذهب إلى صديقنا” لطفي ” فهو عزب مثلي وسنعرف معا كيف نمضي وقتا سعيداً و نقطع من يومنا ساعات لذيذات.

حشرت نفسي فى الأتوبيس ..تلفت خلفي علّي أجد مكانا صغيرا أريح فيه قدمي الأخرى فلم أجد.. رحت أتسلى برؤية الناس حولي وهم يلغطون ويتحدثون ويدفعونني فى كل اتجاه.. نزلت مسرعا فى الميدان.. وقفت على الرصيف أنفض (أرجل) البنطلون التى علق بها تراب أحذية الواقفين فى ذلك الأتوبيس اللعين.

طرقت الباب فى قوة ..لابد أنك نائم أنا أعلم الناس بك يا أبا الالطاف تنام حتى الظهيرة وتسهر حتى مطلع الفجر، ثم تأتى إلينا متعبا متجهما كأنك سهرت على حراسة كل المدينة.. عاودت الطرق من جديد فلم أسمع صوتا..أخرجت أنت الآخر يا أبا الالطاف؟ أم إنك غارق بكل جسدك فى مستنقع النوم حتى تفيق.. يا أبا الألطاف استيقظ فأنا جئت إليك لانتشلك من وهدة النوم .. انهض يا رجل.. انهض فأنا اليوم فى أشد الاحتياج إليك.. انهض يا أبا الألطاف.. انهض دقاتى متواصلة.. رجع الصوت يرتد إلي من الداخل سخيفا رتيبا كأنه يطردنى هو الآخر.. قابلنى صبي وأنا أقف حائرا أمام الباب.. سألنى باستطلاع :

  • سيادتك تريد الأستاذ لطفى ؟
  • نعم
  • خرج
  • خرج …الا تعرف إلى أين خرج ؟
  • لا و الله

نظرت إليه بعينين شاردتين والخجل الثقيل يطوينى لا فائدة لم يعد فى تلكؤي أى نفع انسحبت مع مللي وحيرتى خارجا وقفت على الطوار مفكرا: إلى أين المسير ؟

سرت بضع خطوات انحنيت إلى بقال قريب وابتعت منه علبة سجائر.. أشعلت سيجارة.. رحت أنفث دخانها فى الهواء فى غير تلذذ.. مضيت فى طريقي تقودني قدماي إلى حيث لا أدري.. كان الزحام من حولي شديدا والطريق تنساب أمامى طويلة وخطواتى المتثاقلة تحملني غلى غير ما هدف حدثتني نفسي أن أجلس فى أقرب مقهى وأستريح,, لكن يا نفسى لا أحس برغبة تجذبني إلى المقهى الآن.. فسأجلس بين روادها وحيدا وتعيسا وغريبا.. المشكلة أننى أريد أن أكلم أحدا.. سرت فى طريقي والملل الفتاك يكويني.. توقفت قليلا تفتحت أكمام الأمل فى قلبي من جديد تنفست الصعداء.. يا أبا حنفى لماذا لم أتذكرك قبل الآن؟ قبل هذا اللف و الدوران لماذا لم أبدأ بك أنت؟ فأنا لابد واجدك فأنت لا تخرج أبدا.. أنا أعرف ذلك عنك؛ بل أنت تظل قابعا بين زوجك وأولادك حتى تلقانا فى الصباح بمرحك الفاكه ونكاتك الرائعة ستشكو لي عسر أيامك – اعلم ذلك أعلمه عنك جيدا.. فقط انتظر فسأشكو لك أيضا ولكنك فى النهاية ستغسل حزنينا بفكاهة ضاحكة من فكاهاتك التى يفيض بها مرحك الدائم على الدوا..م يا الله كيف نسيتك يا رجل؟

ألقيت بقية السيجارة.. تشعلقت فى الأتوبيس.. بعد رجات عنيفة ودفع اإى كل الاتجاهات.. نزلت اتجهت إلى حارة جانبية.. احتوانى مدخل البيت.. مدخل كئيب مظلم و رطيب.. صعدت الدرجات متئدا حتى تتعود عيناي عتمة الداخل.. ضغطت زر الجرس.. سمعت صوتا صغيرا لطيفا يتجاوب مع أصداء الرنين.. حمدا لك يا رب.. أنا أعلم أنك دائما موجود يا أبا حنفى.. أقسم أن آخذك بالأحضان لو خرجت لى يا أبا الأحناف..

انفتح الباب .. فتاة صغيرة تواجهنى بوجه جاد.. ابتسمت فى وجهها والأمل اللذيذ يداعب قلبى.

  • بابا هنا يا حلوة؟

حدجتنى برهة ثم …ثم أطلقت من فيها كلمة واحدة آه لو عرفت مدى وقعها على قلبى ..

  • خرج
  • خرج ؟ !!..يا سبحان الله

الأسى …الأسى يخنقنى.. حتى أنت يا محمود أفندى تخرج فى هذا اليوم أهذا معقول؟ محمود أفندى يخرج .. يا له من عقاب … ماذا حدث فى هذا اليوم اللعين.. هبط الحزن على قلبي ثقيلا وغليظا سألت الفتاة بصوت غير مصدق:

  • خرج صحيح
  • اه و الله
  • منذ متى خرج ؟
  • من الصبح

لا فائدة لنرجع إلى الطريق من جديد.. لعنة الله على الظروف.. هبطت والضيق والسامة يملأني.. تعثرت فى بضع حجرات مرصوصة أمام البيت.. كادت توقعني.. ارتفع على الأثر صوت صغير يحتج:

  • حاسب يا عم …هديت البيت

نظرت إليه ..كانا صغيرين متجاورين: ولد و بنت رصا معا قوالب الطوب فى مربع صغير وجلسا فى داخله يلعبان

وأحسست بالحنين يتدافع إلى قلبي رقراقا.. انحنيت إليه.. ربت على كتفيه الصغيرتين هو و زوجه الصغيرة قلت لهما فى حنان بالغ و أنا أغبطهما فى دخيلتى:

  • متأسف

و ابتسمت لهما:

  • هل أجد عندكما شقة لى ؟

ردت الصغيرة:

  • لا
  • قلت فى مداعبة:
  • لماذا يا ست الدار؟ أنا غريب ومتعب جدا وأبحث عن شقة

رد الصغير فى حسم يقطع بيننا خيوط الحديث:

  • ( دا ) بيتنا وحدنا …لا أحد يدخل فيه

تابعته فى طفولته

  • و لكن أنا ضيف
  • لا ….أنت ضيف كبير وعجوز
  • كبير وعجوز الله يسامحك.. طيب يا عم متشكر جدا السلام عليكم (بقى)

جرجرت قدمي على الطريق … كبير وعجوز أشعلت سيجارة أخرى …ووحيدا أيضا.. ابتلعني الشارع الطويل

الملل يتدافع فى دمائي باردا قارسا لا أدرى أين المسير؟ يا له من خروج كئيب هل أعود إلى البيت؟ ..لا …فأنا لا أحس ميلا إلى أن أعود …و لكن السير أتعبني والحيرة تملأني …والملل يعذبني …أأجلس فى مقهى؟ كلا …فهذه لا أريدها أيضا.. أف لي يا لها من ساعات سئيمات لا تريد أن تمر.. ماذا حدث فى هذا اليوم؟ لا يمكن أن أعود الآن ظللت أفكر.. و الأتوبيس ينطلق بي ..أين الذهاب؟ هل أذهب إلى صديقي عبد المنعم .. كلا .. فقد لا أجده أيضا ..لن أذهب إليه حتى لا يفجعني الحظ السيىء من جديد.. توقف الاتوبيس زعق الكمسارى بين الراكبين: التحرير…

نزل البعض. نزلت معهم.. توقفت على الرصيف أفكر.. أعيانى التفكير وأسأمني.. نظرت إلى نافورة الميدان وهى تدفع الماء فوقها فى أشكال سخيفة.. كنت أراها قبل ذلك بهيجة.. قلت فى نفسي : ” أجلس في الحديقة بعض الوقت.. ثم أعود من حيث أتيت ” هبطت السلالم القليلة.. و قتعدت مقعدا حجريا باردا ورحت أتسلى بالنظر إلى النافورة وإلى الناس من حولي والأولاد يلعبون ويلغطون فى سرور لا يعرف الشقاء.. وضعت رجلا على رجل وتنهدت من أعماق مشبعة ببخار الأحزان . احتوانى الصمت الرهيب كالنكبة لم تفلح النافورة بمائها المتدفق فى تسليتي لم يشفني الضجيج من وحدتي الصلبة الباردة.. أف لي ماذا أريد؟ نهضت وقفا سرت خطوات قليلة أنظر الناس حولي كلهم يلغطون.. البعض يجلس أزواجا وهناك شباب  شباب مثلي يجلسون مع نساء جميلات. لا شيء يسليني لا سلوى تعزينى ما نفع الجلوس إذن بين الناس.. نهضت واقفا فى تعب سرت بخطوات متثاقلة فاصطدمت بي بنت صغيرة تبكي . سألتنى من خلال دموعها :

  • ” ما شوفتش ” أخواتى يا عم ؟

تبسمت من سؤالها ضاحكا. انحنيت إليها …أمسكت بكتفيها :

  • أخواتك..لا يا حبيبتى ..ألا تعرفين أين ذهبوا عنك ؟
  • لا
  • لابد أن يكونوا فى الحديقة يبحثون عنك ..تعالي معي ..نبحث عنهم

أطاعتني و مشت معي . لكنها استمرت فى البكاء – ربت على ظهرها قلت لها فى مداعبة :

  • و اسم الحلوة (ايه) ؟
  • اسمي عفاف
  • عاشت الأسامى يا ست عفاف و لا يهمك

تجولنا فى الحديقة .. و كانت الصغيرة كلها عيون متفتحة مترقبة …قلت لها :

  • انظري جيدا يا عفاف ..فأنا لا أعرف أخواتك

قطعنا الحديقة مرات متواليات لكن عفاف لم تعثر على أخواتها فعادت تبكي من جديد مددت اليها يدي بالمنديل مسحت دموعها المنهمرة اشتريت لها قطعة من الحلوى

  • اسمعي يا عفاف …انت عارفة عنوان البيت طبعا

هزت رأسها موافقة ويداها مشغولتان فى فك غلاف الحلوى :

  • عظيم …ما هو العنوان اذن ؟
  • شبرا
  • فى أى شارع ؟
  • مسرة
  • (كويس خالص) يا عفاف و نمرة البيت

توقفت يداها ونظرت إلي في سهوم ثم قالت بعد هنيهة :

  • اصلها صعبة علي …أنا انساها دايما

اضحكني قولها :

  • ( معلهش ) اسمعي …يعني لو ذهبنا إلى شارع مسرة تعرفي بيتكم

ابتسمت و هزت رأسها

  • طبعا
  • اتحلت المشكلة يا ست عفاف …اطمئني …تعالي معي

و أخذت بيدها و سرت بها عبر الحديقة حتى انتهينا إلى افريز الرصيف و ناديت :

  • تاكسي ….تاكسي

شدني إليها فرحتها الطفولية بركوب السيارة.. أخذت تطل من النافذة فى عجب وفرحة مددت يدي إليها وقرصتها فنظرت إلي ضاحكة ثم عادت بوجهها من جديد إلى النافذة هكذا يا عفاف تنسين مشكلتك و ضياعك بمجرد أنني أجلس بالقرب منك حتى و لو كنت لا تعرفيننى …ما أروعكم يا كل الأطفال

  • انتظري يا عفاف …انتظري

كانت تشدني من ذراعي تحاول ان تجري بي ….

  • البيت ( أهوه ….اهوه )
  • انتظري يا ست عفاف …انتظري يا شيخة

وصعدنا السلم معا هى تحاول الإفلات من يدي وأنا أجذبها نحوي ضاحكا طرق سمعي بكاء ضارع و ضجيج سمعت صراخ امراة يتهدد و يتوعد:

  • يعني تاهت البنت منكم يا ملاعين …و الله ( لموتكم ) من الضرب

ثم تعالت ضجة وارتفع نحيب ضارع

نجحت عفاف فى تحرير قبضتها الصغيرة من يدي …انطلقت فى اندفاع سار إلى الباب المفتوح :

  • أنا هوه …..انا هوه

خرجت على الفور امراة نصف بسيطة الثوب مدت لي يدها المعروقة وحيتنى لاحظت انها تمسك بيسراها عصا طويلة رفيعة أسرع من خلفها أولاد ثلاثة أكبرهم لا يتجاوز السادسة عشرة تدافعوا بالمناكب وقفوا حولها صامتين والدموع ما زالت عالقة فى ماقيهم

  • تفضل ….تفضل يا أستاذ

و ابتسمت و قد بدأت اسارير وجهها الغاضبة تنفرد :

  • ألف شكر

ابتسمت المرأة و يدها تعبث فى شعر صغيرتها :

  • تفضل يا أستاذ …تفضل والنبي …الأستاذ سوف يحضر الآن …و يسره أن يتعرف على حضرتك ..
  • متشكر جدا يا أفندم

و التفت إلى عفاف …وهى تحاول الاختفاء بين أثواب أمها :

  • ها أنت قد عدت يا عفاف لماما …مبسوطة يا ست

ثم مشيرا بسبابتي إلى أخواتها الثلاثة :

  • و طبعا أنا (زعلان) منكم جدا وأنتم عارفين ليه
  • ربنا يسترك يا رب …متشكرين جدا يا أستاذ

و هبطت السلم خارجا كانت الشمس قد أذنت للمغيب واستقبلنى الشارع بهواء الأصيل البارد وعاودني الملل السئيم من جديد كيف أقضى الساعات ساعات الليل الباقيات؟

سرت متكاسلا تلكأت فى سيرى وعيناى تفتشان عن تسلية لهما فى الأشياء الكثيرة خلف واجهة المحلات المنيرة عدت إلى البيت.. يا له من خروج.. أشعلت المصباح البترولي فاتضحت كل أشيائى المبعثرة : السرير . الموقد. بعض الآنية.. كوب الشاي المتسخ من الظهيرة.. أحسست بالبرودة أغلقت النافذة.. والأشياء فى أماكنها تنظر إليّ فى تحد مثير.. خلعت سترتى ألقيت بها على كرسي يكاد يتحطم من كبر السن.. خلعت حذائى ودفعته بقدمي تحت السرير.. أخيرا عدت يا عفاف أما انا …آه ….كبير وعجوز معلهش.. وألقيت بجسدي على السرير.. أنظر إلى سقف الحجرة وقد انساب فى أذني صوت (أم كلثوم) دافئا حانيا….

ح أقابله بكرة …..و بعد بكرة…و بعد بعده

فوضعت رجلا على الأخرى ….و ابتسمت ..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى