وقفة تذوّقيّة مع الشّعر القديم

محمد العويسات | فلسطين

 

وما زلت أقف عند أبيات الشّاعر المخضرم عمرو بن الأهتم السّعديّ، التي مطلعها: (ألا طرقت أسماءُ وهي طروق) وأتذوّق هذه الأبيات، متعجّبا من صورها الجميلة، ففي قوله:

أَلاَ طَـرَقَتْ أَسْمَاءُ وَهْـيَ طَـرُوْقُ 

 وَبَانَـتْ عَلَى أَنَّ الْخَيَالَ يَـشُوْقُ

بِـحَـاجَـةِ مَـحْزُوْنٍ كَـأَنَّ فُــؤَادَهُ

 جَنَـاحٌ وَهَي عَظْمَاهُ فَهْوَ خَفُوْقُ

فقد جعل للمحزون ( وقصد نفسه) بفراق أسماء الزّوجة أو الحبيبة، قلبا شديد الخفق، فشبّه هذا القلب بجناح طير عظماه الحاجة والشّوق لأسماء، فالضّمير (هي) يعود على الحاجة التي هي الشّوق، وهذان العظمان يَهُزّان الجناحَ الذي هو القلب فيخفق ويضطرب، فقد أتى بصورة الطّير يخفق بجناحيه على فراخه عندما يأتيها بالطّعام أو يستشعر خطرا عليها، وهذه صورة جميلة ولكنّ الذي زادها جمالا أن يجعل مشاعره وشوقه عظمين يحرّكان الجناح… والحقّ أنّ نثر البيت لا يستوفي جمال الصّورة فالتذوّق أوالذّوق عمليّة أو حاسّة يعجز عن وصفهما الكلام وإن كان يقرّبهما، فالذّوق شيء نفسيّ روحيّ. وقد جاء في البيت الأول وهو مطلع القصيدة بجناس جميل يناسب المعنى في البيت الثاني، ذلك بين (طرقت) بمعنى أتته ليلا طارقة بابه وبين كلمة (طروق) والتي أقرب معانيها في هذا الموضع اللّين والضّعف، فهو يستبعد بقوله (وهي طروق) أن يتحقّق ما يتمناه، والطرق والطروق يتناسبان مع الخفق، ويصنعان معه جوّا من الاضطراب… وبانت بمعنى اختفت وتباعدت فلا يستحضرها إلا خيال يصنعه الشّوق.

أمّا قول الشّاعر في ثنايا القصيدة:

وَمُـسْـتَنْـبِحٍ بَعْدَ الْـهُـدُوْءِ دَعَـوْتُهُ

 وَقَدْ حَانَ مِنْ نَجْمِ الـشِّـتَاءِ خُفُوْقُ

يُــعَـالِجُ عِـرْنِـيْناً مِنَ اللَّــيْـلِ بَارِداً

 تَـلُـفُّ رِيَـاحٌ ثَـوْبَــهُ وَبُــــــرُوْقُ

تَـأَلَّقَ في عَـيْنٍ مِنَ الْمُـزْنِ وَادِقٍ 

 لَـهُ هَيْدَبٌ دَانِي الـسَّحَابِ دَفُوْقُ

فقدّ أتى الشاعر على وصف الضّيف الذي طرقه ليلا في ليلة مطيرة مقرورا، و(مستنبح) هنا اسم فاعل لمن أثار الكلاب فنبحته، وهذه عند العرب كنية للضّيف أو لكلّ من يطرقهم ليلا فتنبحه الكلاب، ولا نقف عند معاني ودلالات الألفاظ المعجميّة بقدر ما نقف عند الصّورة الجميلة في البيت الثالث، وهو في وصف صورة المزن ( السّحب المحمّلة بالماء مفردها مزنة) وهي تلقي حملها على الأرض، والمطر المتدفّق بغزارة يشكّل سحابة من الضّباب أو العجاج والنّقع، فصوّرها الشّاعر بعين متألّقة في السّماء محدِقة بالأرض أهدابها المطر، فالمزنة عين محدقة بالأرض رموشها الكثيفة الهَدِبة هو الماء المتدفّق منها. وهذه الصّورة في ليلة مقمرة، فالقمر له خفوق أيضا، يخفيه السّحاب مرّة ويظهره، فالمقصود بنجم الشّتاء هو القمر في تلك الليلة الشّتيّة، وإلا لما وقع الشّاعر على تلك الصّورة، أي لما تصوّر الأهداب لجفنيّ تلك المزنة، فخيوط أو حبال المطر لا تظهر للعيان إلا إذا كان هناك ضوء خافت يلوح في السّماء يظهر تارة ويغيب خلف السّحاب تارة أخرى. وقد يكون التماع البرق في تلك المزن هو من أظهر تلك الأهداب. وأرى هذا أليق وأجمل، فالمزنة عين يلمع منها البرق فيظهر أهدابها.

وما زلت أقول إنّ الصورة أدقّ، ولا يستوفيها إلا خيال من عاش لحظات المطر في الصّحراء ليلا.

28/11/2020

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى