بالحبر الأبيض.. سيرةٌ صحفيةٌ  (١١)

علي جبار عطية | رئيس تحرير جريدة أوروك العراقية

           صرصارٌ على مائدتي !          

تعرّضتُ إلى عمليات تسليبٍ كثيرةٍ ، لكني كُرمّتُ مرتين. سأرجئ الحديث عن التسليب إلى وقت آخر ، وسأتكلم عن التكريم، فالمرء يحتاج في مسيرته إلى من يقول له : (أنت صح)،  وأن الإشارة لك خضراء فاستمر، كذلك على الطرف الآخر لابدَّ أن يشعر غير المكرّم بضرورة الاجتهاد، وتلافي التقصير، وفي ذلك يقول علماء الإدارة :أنه إذا كان لديك عدّة موظّفين، وكرّمتَ واحداً منهم، فأنت في الوقت نفسه تعاقب البقيّة.

سأدخل في الموضوع، فقد رشّحني رئيس تحرير جريدة (التآخي) الدكتور بدرخان السنّدي؛ للتكريم في نقابة الصحفيّين العراقيّين ؛ بوصفي من الصحفيّين المتميّزين، فأخذتُ كتاباً من الإدارة يفيد بذلك، وأنني مرشّحٌ جريدة التآخي.

وصلتُ إلى النقابة في  مقرِّها مقابل شارع المغرب مساء الخميس الموافق ٢٠٠٦/٧/٦ م.

كان المناخ حارّاً جدّاً، والجوّ العام حزيناً للغاية لوجود عدد من ذوي شهداء الصحافة.

بدأ الحفل في حديقة النقابة، بكلمةٍ لنقيب الصحفيين العراقيين شهاب التميمي (أغتيل على يد مسلحين في حي الوزيرية ببغداد يوم ٢٠٠٨/٢/٢٧ م ) بعد أن قدّمته مذيعة مشهورة في تلفزيون العراقية  تتوشّح بالسواد حزناً على وفاة ابنها الشاب، فقال التميمي :إنه أخذ وعداً من أمين بغداد ببناء مجمَّعين سكنيين في جانبي الكرخ، والرصافة، يضمّان أربع آلاف شقّة لأربعة آلاف عضو عامل في النقابة.

ثم بدأت فقرة التكريم التي شملت في البدء شهداء الصحافة الذين بلغ عددهم مئة، وثلاثين شهيدا من بينهم. :الدكتور عبد الرزاق نعاس الدليمي، وهو من سكنة مدينة الحرية ببغداد، كان أستاذاً للإعلام الدولي في كلية الإعلام بجامعة بغداد ووجهاً مألوفاً  في القنوات الفضائية ، وقد  أغتيل يوم السبت الموافق ٢٠٠٦/١/٢٨ م بقيام مسلحين باعتراض سيارته  إثر خروجه من كلية الإعلام بجامعة بغداد وأطلقوا النار عليه، فأردوه قتيلاً، كذلك شمل التكريم عائلة الشهيدة أطوار بهجت السامرائي، وعلي الخطيب، وكلاهما من قناة العربية.

أما أطوار بهجت فقد أغتيلت  صباح  يوم الأربعاء الموافق ٢٠٠٦/٢/٢٢ م  أثناء تغطيتها لأحداث تفجير مرقدي الإمامين العسكريين (علي الهادي والحسن العسكري)في سامراء، وكانت العملية ( التفجير وإغتيال الشهيدة أطوار بهجت) من تدبير  أحد عناصر تنظيم القاعدة، وهو هيثم البدري ( هيثم صباح شاكر محمد البدري) الذي قتل في غارةٍ أمريكيةٍ  شرقي سامراء يوم ٢٠٠٧/٨/٢ م.

أمّا الشهيد علي الخطيب، فقد قُتل على يد القوات الأمريكية بإطلاق نار بطريق الخطأ هو، وزميله المصور علي عبد العزيز  ليلة ٢٠٠٤/٣/١٨ م أثناء تغطية حادث الهجوم على فندق (برج الحياة) ببغداد.

 وجاء في بيان  أمريكي ” نأسف لحادث إطلاق النار بطريق الخطأ على مراسلي قناة العربية”

وقال مسؤول أمريكي : إنَّ الجنود الأمريكيين تحرّكوا وفقا لما أملاه الموقف، وأن القوات الأمريكية ستبحث تقديم تعويض لأسر الضحايا. .

كان من ضمن الحضور أحد ذوي الشهيد(علي الخطيب)، وكان يشكو بصوتٍ عالٍ الإهمال الحكومي.

وانتبهتُ إلى أنّ حصّة الأسد من الضحايا هي لقناة العربية السعودية. فقد تبنّت جماعة مسلحة أطلقت على نفسها اسم “جند الإسلام” عمليّة تفجير سيارة ملغومة بمكتب قناة العربيّة في بغداد  راح ضحيّتها سبعة من موظفي القناة في تشرين الأول سنة ٢٠٠٤ م.

كما تعرّض مراسلها الصحفي (جواد كاظم) في حزيران ٢٠٠٥م إلى محاولة اغتيال أثناء خروجه من أحد المطاعم في حي الكرادة ببغداد، وكانت إصاباته عميقة،  واستمرّت رحلة علاجه ستة أشهر، ثم عاد للعمل لكن على كرسيّ متحرك ، وفي مقرّ القناة في دبي كمحرّرٍ، ومذيعٍ للأخبار.

 وبعد أربع سنوات من حفل التكريم هذا، وفي تموز ٢٠١٠ م تبنّى تنظيم القاعدة المسؤولية عن تفجير انتحاري استهدف مكتب العربية في بغداد، وراح ضحيته أربعة قتلى، وستة عشر جريحا.

ومن بين المكرّمين عائلة رئيس تحرير جريدة (العراق) (نصر الله الداودي)  ( الذي أُغتيل في بغداد على يد مجموعةٍ مسلّحةٍ مساء الأربعاء الموافق ٢٠٠٤/١٠/٢م).

كانت هدايا شهداء الصحافة عبارة  عن مولّدةٍ كهربائيةٍ ذات طاقة مقدارها (٢،٥ كي في) .

تخيّلتُ نفسي، وأنا أقدم على أهلي، وقد أتيتُ لهم بمولدةٍ كهربائيةٍ تولِّد نحو عشرة أمبيرات، لكنّي تذكّرتُ أنني لستُ من الشهداء!

قطعت المذيعة إرسال أفكاري، فأذاعت  أسماء الرواد، ومنهم الشاعر صادق الجلاد ( صادق حمزة الجواري)، ومجيد اللامي، وغيرهما فكانت هدية الأول تلفزيونا ملوّناً ، والثاني هدّيته مبرّدة إيرانيّة.

فاشتغلت أحلام اليقظة، فرسمتُ في ذهني مكاناً للتلفزيون الذي سأضعه في غرفتي، وأربطه  بهوائيّ  لإستقبال البثّ الأرضي لقناة النهرين، فالدوري الإسباني مثير، والأكثر إثارة متابعته مجاناً، ومن دون بطاقات شحن مشفرةٍ !، وإذا خدمني الحظّ وأعطوني مبردةً إيرانية الصنع يحرم بيعها في بعض المناطق، فسأضعها هذه المرة داخل الغرفة كإيقونةٍ، وأجنّبها التعرّض للشمس !

لكنَّ المذيعة قطعت إرسالي فَتلت  أسماء متميّزي الصحافة مثل (إبراهيم محمد علي) من جريدة الصباح وسلام الشماع، وحمودي عذاب، وغيرهم، ولم أكن من المتميّزين !

وصل الدور إلى فقراء الصحافة من المحتاجين، والمرضى، وغاب اسمي أيضاً !

إذن، فقد عاد النحس، ليطرق بابي من جديدٍ  بعد أن ابتسم لي الحظّ ساعات، فلم يرد اسمي لا مع الشهداء، ولا مع المتميّزين، ولا مع  المرضى، ولا مع المساكين، ولا حتى مع أشراف روما !

انتظرتُ حتى نهاية الحفل، فذهبت إلى الإدارة لأستفسر.

 قال لي أحد الإداريين :أن الأسماء التي أذيعت منتخبة لضيق الوقت، وهناك أسماء في قوائم أخرى لم تذع.

ظلّ الإداري يبحث عن اسمي ، ويطابقه  مع الكتاب الذي أعطيته له.. وأخيراً وجد اسمي.. فكّرت في هذه الورطة جدّيّاً هذه المرّة ، فربّما خرج لي تلفزيون ملون كلاسيكي لا يعرض سوى الندوات، والمؤتمرات الملوّنة ! وكيف يكون حالي لو سلّموني مبردةً إيرانية، أو مولّدةً كهربائيةً، فمن يساعدني في حملها، والشارع في هذا الوقت من المساء يصوصي (فارغ) وغير آمن؟

قطع الإداري حيرتي، وسلّمني الهديّة، وهي عبارة عن هاتفٍ نقالٍ نوع (مورتلا) يسميه أهل السوق بـ(الصرصار)، وسعره لا يتجاوز  ٢٥ دولاراً مع (سيم كارت) بلا رصيد من إحدى شركات الهاتف النقال ـ إحدى رعاة الحفل ـ نقلني من عصر الهاتف الأرضي إلى عصر الهاتف المحمول، فبدأتُ تشغيله يوم الثلاثاء الموافق ٢٠٠٦/٧/١١ م، ودشّنته بأول مكالمةٍ فضائيةٍ دوليةٍ لا يعاقب عليها القانون بالإعدام  بتهمة التجسس مع شقيقي الشاعر، والكاتب عبد الرزاق الربيعي  !!

أمّا التكريم الثاني، فقد جرى بعد نحو ست سنوات، وشهرين

فقد اتّصل بي يوم الإثنين الموافق ٢٠١٢/٩/٣ م  مدير إذاعة (الرأي العام) مهنّد العقابي يبلغني باختياري للتكريم بمناسبة الذكرى السنوية لإنطلاق القناة سنة ٢٠٠٩ م ، وميزة هذه الإذاعة ـ التي انضمَّت في ما بعد إلى شبكة الإعلام العراقي ـ أنها تبثّ ساعةً إخباريةً، كلّ ساعة ابتداءً من الساعة السابعة مساء ، وحتى الساعة التاسعة مساء، فضلاً عن أنّ هذه الإذاعة الفتيّة تبلغ نسبة البرامج المباشرة فيها ٩٠ في المئة.

شكرته، ووعدته بالحضور وقد شجعني الزميل حسام صباح الدوري على الحضور، وقال: إن عطاياهم جيّدة !

جرى الحفل مساء الأربعاء ٢٠١٢/٩/٥ م في النادي اللبناني الاجتماعي في الكرادة.

  كنت قبل شهور قد أسهمتُ في بثٍّ حيّ حاورني فيه المذيع (غزوان جاسم)، وكان الموضوع عن (عسكرة المجتمع)، وفي مرةٍ أخرى طلبوا رأيي في عرضٍ مسرحي لفرقة ألمانية شاركت في مهرجان بغداد للمسرح ، وقد ظهرت فيه ممثلة ألمانية تجاوز عمرها الخامسة، والخمسين في مشهدٍ على حد تعبير الفنان عادل إمام ( من غير هدوم) ! وقلت: وقتها إنَّ الضجة التي أفتعلها المعترضون على مشهد العري ليست دفاعاً عن الفضيلة التي يدّعون حراستها، وإنّما هدفهم الإطاحة بأحد  المديرين المسؤولين عن استدعاء الفرقة !

وقد ظننتُ أنه لا أحد يسمع الإذاعة ، لكن تبيّن لي أن مستمعيها هم شريحة واسعة من سوّاق السيّارات، وأغلبهم من الخرّيجين الذين لم يحصلوا على فرصة عملٍ في مؤسّسات الدولة، أو القطاع الخاص، فلجأوا إلى مهنة السياقة.

قال لي مدير عام الإذاعة مهند نجم العقابي الذي كان زميلاً لنا في جريدة (التآخي)، وقد وفّقه الله بعد خروجه منها : (أنتَ من الناس الذين استفدنا منهم) .

رددتُ عليه : كلامك هذا أفضلِ تكريمٍ لي.

بدأت الحفلة في الخامسة مساء، وكان الطقس حارّاً جداً برغم أننا في شهر أيلول ، لكني تذكرت مثلاً عربياً قديماً يقول (قتلني أيلول  بحرِّه  ، رحم الله شهر آب)..

بدلتي الشتوية الهوائية رفعت حرارتي إلى الأربعين، لكن التكييف في قاعة الحفل هوَّن الأمر.

اعتلى المنبر القارئ (عامر حمزة)  ليتلو بالطريقة العراقية الشجية آياتٍ من القرآن الكريم  :({ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ }   [فصلت ٣٠ـ ٣٢]

تلتها كلمة المدير العام، ثم كلمة ممثل نقابة الصحفيين سعدي السبع، وعرض فلم وثائقي عن مسيرة الإذاعة، ثم قصيدة للشاعر نجاح العرسان، ومقطع كوميدي قصير، ثم بدأت فقرة توزيع الجوائز، وهي دروعٌ، وساعاتٌ صينية يدوية نوع over fly كان من المكرمين د. هاشم حسن، وفلاح الذهبي مدير مكتب قناة الحرة، وضياء الوكيل الناطق الإعلامي باسم عمليات بغداد ، ومصعب المدرس الناطق بإسم وزارة الكهرباء، والنائب كمال السعدي.

حين جاء دوري للصعود على خشبة المسرح كان الارتباك واضحاً عليَّ ، وحين تسلّقتُ سلّم المنصّة تماسكتُ بصعوبة؛ لأن الحذاء الجديد الذي اشتريته صباح هذا اليوم لم تألفه قدماي بعدُ !

لكنَّ الموقف الأصعب كان هو تسلّم الدرع، والتقاط الصورة! فيجب أن تصافح الذي يعطيك الدرع، ثم تدير رأسك، وتبتسم للمصور، وسط تصفيقٍ باهتٍ !، وزادت قناعتي أنّ دور المكرّم لا يليق بي !

عدتُ إلى مائدتي كالمذنب، وتلقيتُ التهاني من جليسي (نذير الشوك) ، وهو شخصية رفيعة في وزارة شؤون الدولة.. كان  لا يكفّ عن التعليق على الكلمات التي قيلت بحق الإذاعة الفتية، ووصفتها بأنّها تفوّقت على كلّ الإذاعات.. قال : كيف تتفوّق على كلّ الإذاعات، وبثها محدود؟

سألني: هل تعمل في الإذاعة؟

قلت : لا ، لكني أسهمت في بعض البرامج.

سألته عن حاله؟ قال  :إنَّه كان مقيماً في الإمارات العربية حتى سنة ٢٠٠٦ م وعدد السكان  يبلغ تسع مئة ألف مواطن، بينما يبلغ عدد الوافدين أحد عشر مليون نسمة.

 وأضاف : إنَّ كل شيء هناك يديره القطاع الخاص إلّا قطاع الصحّة، فالحكومة توفّر الرعاية الصحيّة للمواطن من أصغرها إلى أكبرها مجاناً.

قال : حين وصلت إلى الإمارات في التسعينيات لفت إنتباهي شربهم للماء المعلب، وها نحن قد وصلنا إلى ذلك بسبب الإستثمار.

أعود إلى حادثةٍ تسليب واحدةٍ تعرّضتُ لها  يوم العيد عندما كان عمري لا يتجاوز ست سنين، فقد حصلت على مبلغٍ يعادل أجرة عامل بناء ليومٍ واحدٍ، فاقترب منّي أحد رجال العشيرة في  مضيف رئيس العشيرة، ولاطفني ثم هنأني بالعيد ، وعرض عليَّ أن يعدّ نقودي، فأعطيته كلّ ما أملك، فوضع القطع المعدنية في جيبه، ولم يعدها لي، وغلبني الحياء، فلم أخبر والدي ، وظننت أن هذا  الأمر جزءٌ من لعبة الحياة !

سأقول لكم شيئاً : إنَّ اللوعة التي حملتها منذ نحو نصف قرنٍ  بذكرى التسليب الطفولية المؤلمة هذه ، لم يمحها التكريم الذي نلته، إنٌّما محتها تماماً  ذكرى تسليبي من وظيفتي زمن (الأستاذ)، زمن (عصر الغمّان)في حزيران سنة ٢٠١٥ م، فإليه وإلى ( من لفّ لفّه)  من السلّابة، وقطاع الطرق  :أوجّه الشكر، والتقدير لهذه الخدمة!

(السيرة مستمرةٌ ، شكراً لمن صبر معي.. يتبع)

شروح صور

١. شهاب التميمي

٢.د.عبد الرزاق نعاس

٣. أطوار بهجت

٤. جواد كاظم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى