قاعدة في شواهد اللغة

طاهر العلواني | كاتب مصري

علوم اللغة قسمان: قسم لا يجوز أخذه إلا ممن يوثق بعربيته من أهل السليقة أرباب اللسان، وقسم يجوز أخذه من غيرهم.  فالذي لا يجوز أخذه إلا ممن يوثق بعربيته، فالنحو والتصريف واللغة. وغير ذلك يستشهد عليه بكلام العرب وغيرهم.

والشاهد نثر وشعر.
فالنثر، القرءان على اختلاف قراءاته المتواتر والشاذ. وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب الذين يحتج بهم. ولا خلاف في الأخذ بالقرءان وكلام العرب. أما كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنعه كثير، وعليه ابن الضائع وأبو حيان والسيوطي، وأجازه جماعة، وهو اختيار ابن خروف وابن مالك وانتصر له البدر الدماميني في شرح التسهيل فأحسن وأجاد، وتوسط الشاطبي فأجاز الأخذ بما اعتنى راويه بألفاظه، ككتبه صلى الله عليه وسلم إلى الملوك، وغير ذلك يمتنع.

وأما الشعر، فالشعراء على أربع طبقات:
جاهلي، وهو من لم يدرك الإسلام، كامرئ القيس وعنترة.  ومخضرم، وهو من أدرك الجاهلية والإسلام، كلبيد وحسان رضي الله عنهما.
وإسلامي، وهو من كان في صدر الإسلام، كجرير والفرزدق. ومولّد، وهو من جاء بعدهم، كبشار والبحتري وأبي تمام.
وقسّم بعضُهم هذه الطبقة إلى طبقات، وليس فيه كبير فائدة، فالأُوليان لا خلاف في الاستشهاد بهما في النحو التصريف واللغة، واختُلف في الثالثة، فقيل: يمتنع، وعليه ابن أبي إسحاق الحضرمي وأبو عمرو. كان الحضرمي يلحّن الفرزدق، وقال الأصمعي: جالست أبا عمرو عشر حجج، ما رأيته احتج ببيت إسلامي. وقيل: يجوز. وعليه الجمهور.
وأما الرابعة، فالأكثرون على المنع، إلا أشياء يسيرة كما استشهد الزمخشري ببيت لأبي تمام في كشافه، وكذا فعل الرضي، فاحتج بأبيات للمتنبي وأبي تمام. 
وشرطُ الاحتجاج بالشعر أن يكون قائله معروفا، فإذا جُهل القائل تُرك الاحتجاج به، إلا إذا كان المستشهِدُ بالبيت إماما ثقة فيما ينفرد به، كما انفرد سيبويه بأبيات لم يعرفها الجرمي، وانفرد من المتأخرين الشيخ جمال الدين ابن مالك – رحمه الله تعالى – بأبيات لا تُعرف إلا من جهته، ولا يعرف قائل لها، فالاعتماد في مثل هذا على إمامة الرجل، فإن كان ممن يصح تفرده جاز، وإلا امتنع. وانفراد مثل سيبويه وابن مالك وأضرابهما مما لا ريب في الاحتجاج به؛ ألا ترى أن صاحب الخزانة بعد أن ذكر كلام أبي عمر الجرمي في الأبيات الخمسين التي لم يعرف قائلها من كتاب سيبويه، قال عن الجرمي: فاعترف بعجزه، ولم يطعن عليه بشيء؟
هذا إذا كان الاحتجاج على اللغة أو النحو أو التصريف، فإن كان على غيرها، جاز الاستشهاد بالجميع عند الجميع.
والذي اعتنى به شرّاح الشواهد كابن السيرافي والأعلم والقيسي والبطليوسي وابن هشام وغيرهم هو الشاهد الشعري دون النثر بأنواعه.
فيبدأ الشارح بذكر الشاهد، فإن كان شطر بيت أو بعض شطر، أتى به كما هو، أو وضع سائر البيت مما لم يذكره صاحب الكتاب بين معقوقتين، أو يتركه، ثم يذكر قائله، فإن كان أول شاهد لهذا الشاعر ترجم له باختصار، ثم شرحَ معاني الألفاظ وإعرابها، ثم بيانه، و موضع الاستشهاد منه. فإذا جاء شاهد آخر للشاعر نفسه عوّل على سابقِ ترجمته. وربما سمّاه ولم يترجم، وإذا تكرر الشاهد نفسه، عوّل على الموضع الأول مع ذكر الشاهد منه في موضعه، وإذا كان للبيت روايات ذكرها وبيّن اختلافها، وربما تركها إلى الرواية التي اعتمدها صاحب التصنيف.
فإن قلت: لم جاز الاستشهاد بكلام المولّدين في علم البيان، وامتنع في النحو والتصريف؟
قلت: لأن علم النحو علم بقوانين خاصة أجرتها العرب في كلامها، لا توجد عند أهل لسان آخر؛ فالفاعل والمبتدأ وما جرى مجراهما من العُمد استحقت الرفع في كلام العرب، وبعض الكلام استحق النصب، وبعضه الجرّ أو الجزم، وتلك قوانين ثابتة لا تتخلف إلا في شذوذ أو ندور، فوُضعت قواعد النحو لتعرف بها ما هو شاذ أو نادر أو قليل لتتقيَ أن تجعله ديدنًا لك ولم يكن كذلك عندهم، و مستمرا في في كلامك ولم يستمر في كلامهم، فنحن في ذلك كبشار والبحتري وأشباههم، أعني أن كلامنا يُحتج له لا به؛ إذ كان الذي نطق به ليس مطبوعا على هذا اللسان مجبولا على عدم اللحن مفطورا على ألّا يتلقن غير لهجته التي خلق بها؛ ألا تراني لو قلت: أكرمني زيدًا، لكنتُ مخطئًا لاحنًا، ولا يجوز لك أن تحتج لي بنحو: خرق الثوبُ المسمارَ؛ من حيث كان متوغلًا في الشذوذ؟ وإنما كان ذلك لأن القائل: أكرمني زيدًا، ليس من أهل السليقة، وإنما هو متعلّم ليلحق كلامُه بكلام هؤلاء الأعراب، فإذا خالفهم، كان ذلك لحنا، لا يقال فيه في أحسن أحواله: إنه شاذ، بل هو لحن. فإذا نظرت في كلام اليونان مثلا، لا تجد عندهم أصالةَ رفع الفاعل أو غير ذلك، ولو وجدته وجدته على غير ما هو معروف من كلام العرب، ولو كان كذلك، فهو على غير حروفهم ولهجتهم، فلما كان كذلك عُلم أنه لا يكون شيء من كلام المولّدين إلا وهو على ضربين:
ضرب خالف كلام العرب، فهذا يحكم عليه باللحن، وضرب وافق كلامهم، وما علمنا أنه وافقه إلا بعرضه عليه، فدل على أن كلام المحدَثين في النحو يُحتج له لا به. فاعرف ذلك إن شاء الله.
وأما التصريف، فكذلك؛ لأنك لو قلت مثلا: ضرُبَ زيدٌ عمرًا، وقوَمَ أخوك، لكان ذلك لحنا؛ لأن نقلت الأول إلى مثال فَعُلَ يَفْعُلُ، ولا يكون إلا لازما، ولأنك صحّحتَ الواو في الثاني، وكان القياس فيها قلبها إلى الألف.
فإن قلت: إنهم قالوا عَوِرَ، فصححوا الواو، وكذلك عيِن!
قيل: هذا سماع جاء على غير القياس، وإنما تقيس كلامك على ما كان قياسا في كلامهم.
فإن قلت: فإن أبا الفتح صحح ذلك بجعل كسرة العين متوهمة ياء، فما يضير أن أتوهم الفتحة ألفا، كأني قلت: قوَامَ زيدٌ؟
قيل: هذا الفرق بيننا وبينهم؛ فابن جني رحمه الله، التمس لهم مخرجا يجعل ما ليس قياسا قياسا، أما كلام غيرهم، فليس فيه إلا القياس على مشهور قياسهم أو اللحن؛ ألا ترى أنهم لحّنوا أبا نواس في قوله:
كأن صُغرى وكبرى…..

ولحنوا أبا العلاء في قوله:
فلولا الغمد يمسكه لسالا.

وأبا الطيب في قوله:
لأنت أسود في عيني من الظلم.

وإن كان لكلامهم مخرج صحيح، فالمقصود أنهم لم يقبلوا منهم اختراع قانون محدث في النحو أو التصريف، فلا تكون فُعْلَىٰ مؤنث أفعل إلا بأل أو إضافة، ولا يُذكر الخبر بعد لولا، وإن كان أبو العلاء لم يلحن؛ لأن الخبر معنى خاص، وإنما استمرار الحذف في الوجود العام، فهو كقول الزبير رضي الله عنه: فلولا بنوها حولها لخبطتها**كخبطة عصفور ولم أتلعثم.
فانظر أيضا، كيف صحَّحَ كلامَ أبي العلاء مَن صحَّحَه لأجل ثبوت ذلك عن العرب، ولولا ثبوته لكان خطأ.
وأما بيت المتنبي، فجمهور البصريين على منع بناء التفضيل من الألوان، فلم يحتملوه من المتنبي على جلالته؛ لأنه ليس من أهل الطبع، فمنهم من خطّأه ومنهم من تأوّل له بإخراج أسود إلى الاسمية.
أما علم البيان، فإنه المعاني المستقرة في النفوس، وهي لا تتفاضل بين مطبوع ومُولّد، بل لا تتفاضل بين عربي وغيره؛ ألا تراك لو رأيت عاميا يقول بلهجته: رأيته كالأسد، أو يقول: وجهه كالبدر، لعلمت أنه  يشبّه الأول بالأسد في شجاعته، والثاني بالبدر في ملاحته، فأدّاه بلسانه الذي يعرفه، كما يؤديه سحبان أو ابن عجلان بلسانه، ولم يكن فصل بين المعنيين إلا بلاغة اللسان وتناسق الألفاظ واستيفاء المعنى.
فلما كان هذا العلم عقليا، راجعا إلى تبليغ المعنى، كان العربي وغيره فيه سواء؛ فالنظر فيه حينئذ من جهة صحة الألفاظ إذا عُرضت على قواعد النحو والتصريف، ثم انْتُقيتْ تلك الألفاظ التي تكون أوفى بالمعنى من غيرها، ثم يُنظرُ في المعنى، هل استوفى المتكلم بيانه، أو قصّر؟ ألا ترى قول لبيد:
أخشى على أربَدَ الحتوفَ ولا**أرهبُ نوءَ السماكِ والأسدِ.

وما فيه من الفصاحة وتناسق الكلام، إلا أن البحتري أخذه فزاد على معناه، ووفّى المعنى حقه بقوله:
لو أنني أوفي التجارب حقها**فيما أَرَتْ لَرجوتُ ما أخشاه.
ولبيد عربي، بل من أهل المعلقات، والبحتري من المولّدين.
فاعلم بهذا أن تأدية المعاني تحتاج إلى قريحة حاضرة من عربي أو غيره، فالفصل في ذلك إظهار المعنى في أبهى صورة.
فإن قلت: فلم كان علم البيان على ما عرفناه من صعوبة المسلك، ووعورة الخوض في بنيّاته؟
قلت: ذاك راجع إلى أمر ذاتي فيه وأمر خارج عنه.
فالذي هو ذاتي فيه، أن هذا العلم مردّه إلى العقل، فربّ بيت رأيتَه قبيحا؛ لأنك لم تتقن النظر فيه، ورآه غيرك إلى البلاغة ما هو، لأنه لم يكتف بظواهر حاله؛ وانظر في قول حسان رضي الله عنه المشهور:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى**وأسيافنا يقطرن من نجدة دما.
فقد اعترض عليه بعض الأدباء بقوله: يلمعن بالضحى، وكان الأفصح أن يقول بالدجى، وقوله: وأسيافنا، وهو جمع قلة، و الأفصح سيوفنا، وقوله: يقطرن، و الأفصح يجرين.
وإذا أحكمت الصناعة فيه علمته من أفصح الكلام وأجراه على قوانين البيان.
أما قوله: يلمعن بالضحى؛ فلأن كل شيء يلمع بالدجى، بل الذي هو لا ضوء له ولكنه غير مظلم، يلمع لمجاورته المظلم؛ ألا ترى أن لو تبسم زنجيٌّ في الظلام فبدت نواجذه لمعت؟ أما الضحى فلا يلمع فيه إلا ما كان ضوؤه شديدا، حتى يطغى على ضوء النهار، وإلا بهت نوره ولم يلمع.
وأما قوله: وأسيافنا، فالكلام فيه من وجهين:
أحدهما: أن جمع القلة وقع على الكثرة في أفصح الكلام، كقوله تعالى ” وأنهار من عسل مصفى”، ولا يجوز أن يراد بالأنهار القلة هنا.
الثاني: أن في ترك جمع الكثرة والعدول إلى جمع القلة استهزاءً بالعدو، كما لو أهانك أحد وأنت ذو منَعة، فإنك تقول له: إن لم تذهب أخرجت لك صبيا من صبياننا ففعل بك، فلست تريد أنْ ليس عندك فتيان، وأنْ ليس عندك إلا غلمان صغار، بل أردت تحقير شأنه وأن صبيا من عندك يقدر على إهانته، فلا يحتاج أن تُخرج له. فتى. كما قال عمرو بن كلثوم:
إذا بلغ الفطام لنا صبي**تخر له الجب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى