وجهة نظر نقدية لمقدمة ابن خلدون

د. إسلام إسماعيل أبوزيد | مؤرخ مصري

دراسة أي إنتاج فكري -فلسفيا كان أم اجتماعيا- تستوجب وضعه وربطه بالحقبة التاريخية التي ينتمي إليها، ذلك أنها تحتوي على عناصر معقدة ومركبة قائمة على علاقات تبادلية وتفاعلية.

قبل أن يدون ابن خلدون تاريخه كتب مقدمة تاريخية انتقد فيها المؤرخين المسلمين الذين سبقوه، وطرح منهجا نقديا بديلا لمنهجهم.

هذا المنهج لخصه في جملة قواعد يجب الالتزام بها في تحقيق الروايات التاريخية ونقدها، منها إرجاع الأخبار والآثار إلى طبائع العمران وأحواله، وتمحيصها وتمييز صحيحها من سقيمها.

ومنها كذلك تحكيم العادة وقواعد السياسة والأحوال، وقياس الغائب بالشاهد والحاضر بالذاهب، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار وإخضاعها للعقل من حيث الإمكان والاستحالة.

ومنها أيضا التركيز على نقد المتون وتقديمها على نقد الأسانيد، وجعل نقد الإسناد خاصا بالخبر الشرعي ونقد المتن خاصا بالخبر البشري.

وهنا نقول أن ابن خلدون قد بالغ كثيرا في الدعوة إلى الاعتماد على قانون المطابقة بين الروايات التاريخية والواقع الطبيعي، مع أنه محدود ولا يصلح لتحقيق كثير من الأخبار التاريخية التي تدخل في إطار الإمكان العقلي والواقع والمتعلقة بالسلوكيات والتصرفات العادية، وبالأوامر والنواهي، فهذا النوع من الحوادث لا يمكن تحقيقه في الغالب إلا عن طريق نقد الأسانيد لا المتون.

إضافة إلى ذلك فإن قاعدة الإمكان والاستحالة تدخل الروايات التاريخية في إطار الإمكان العقلي والواقعي ولا ينقدها ولا يصححها بالضرورة، بل هو يستبعد المستحيل ويبقي ممكن الحدوث ينتظر النقد والتمحيص، لأنه ليس كل رواية ممكنة الحدوث تكون بالضرورة قد حدثت في الواقع بل قد تكون مكذوبة ومزورة.

وهذا يعني أنه قد تجتمع لدينا روايات ممكنة الحدوث وهي مكذوبة ولا يمكن كشفها بقاعدة الإمكان والاستحالة، وإنما يتم ذلك بنقد الأسانيد والمتون معا.

ومن ثم فإن اعتبار هذه القاعدة طريقا موصلا إلى التمييز بين الحق والباطل، قول مبالغ فيه ولا يصح على إطلاقه.

أما عن قاعدة ابن خلدون في التفريق بين الخبر الشرعي والخبر البشري وتقديمه نقد الإسناد في الأول ونقد المتن في الثاني، فإن المؤلف يرى فيه تخصيصا لا يقوم على دليل وقدحا لعلماء الحديث المحققين وإغفالا لجهودهم الكبيرة في نقد متون الأحاديث.

إذ لا يوجد في علم مصطلح الحديث أن الأحاديث النبوية تنقد من أسانيدها دون متونها، وإنما الموجود فيه أنها تنقد إسنادا ومتنا مع التركيز على جانب دون آخر حسب طبيعة كل رواية.

وبذلك يمكننا القول أن التفريق بين الخبر الشرعي والخبر البشري في النقد تفريق غير صحيح من حيث الأصل، إذ الفوارق الموجودة بينهما فوارق جزئية لا تلغي الأصل المشترك بينهما باعتبار كل منهما حدثا تاريخيا داخلا في دائرة الرواية التاريخية إسنادا ومتنا.

أما مسألة تحكم المعاش في أحوال الناس، إذ يرى ابن خلدون أن “اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش”.

وهنا كلام ابن خلدون مجمل يحتمل عدة تفسيرات باعتبار أن لفظة “نحلة” تحتمل عدة معان كألفاظ الطريقة والمذهب والعطاء والصدقة، وترجيح أي احتمال نرى فيه مبالغة من ابن خلدون، إذ يجعل الإنسان مسلوب الإرادة خاضعا لتأثيرات المعاش في مختلف أحواله.

وهذا مخالف لما هو واقع أصلا بدليل أن التاريخ البشري يشهد على أن عقائد ومذاهب كثيرة ظهرت قديما كالبوذية واليهودية والمسيحية وأحدثها الإسلام، كان لها تأثير كبير على أفكار وسلوكيات أتباعها الكثيرين، وهي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا مع تأثيرها الواسع على أتباعها رغم التغيرات الجذرية الكثيرة التي حدثت في طرق المعاش.

وهذه التغيرات لم تغير تلك العقائد والمذاهب ولا أذهبت عنها أتباعها، ما يثبت أن الزعم باختلاف الأجيال تبعا لاختلاف طرق معاشهم زعم غير صحيح.

وما يثبت ذلك أيضا وجود مجتمعات كثيرة ذات طرق معاشية واحدة ومتقاربة جدا في مستواها الاقتصادي، لكنها مع ذلك مختلفة في العقائد والمذاهب واللغات والسلوكيات، وقد تكون متناحرة كما هو الحال في الهند، فأين تأثيرات طرق المعاش على هؤلاء؟ ولماذا لم توحد بينهم في أحوالهم المختلفة؟

ولابن خلدون موقف من العرب، فقد ذكر ابن خلدون أن “العرب لا يتغلبون إلا على البسائط” بسبب طبيعة التوحش التي فيهم، كما”لا يطلبون إلا الأمور السهلة”، و”لا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا دفاعا عن النفس”.

وهذا حكم لا يصح إصداره في حق أي شعب من الشعوب شرعا ولا عقلا، وأنه لا دليل عليه من نصوص الشرع ولا بمنطق العقل، فهو بعيد كلية عن النظرة العلمية الموضوعية الصحيحة ومخالف لما وصف الله به “العرب المسلمين” بكونهم خير أمة في قوله – تعالى -“كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر” (آل عمران/110). “

التغيرات المعيشية لم تغير العقائد والمذاهب ولا أذهبت عنها أتباعها، ما يثبت أن الزعم باختلاف الأجيال تبعا لاختلاف طرق معاشهم زعم غير صحيح”

ولا شك في أن أمة لا تتغلب إلا على البسائط لا يحملها الله تلك المسؤولية الكبرى في التبليغ ولا يعدها بالتمكين والنصرة في الأرض.

وبالنسبة لإنتشار المذهب المالكي في المغرب الإسلامي، فقد ذكر ابن خلدون أن المغاربة في زمانه كلهم مالكية المذهب، ورجع ذلك إلى عاملين: الأول رحلتهم إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم، والثاني البداوة التي كانت غالبة عليهم فكانوا إلى أهل الحجاز أميل لمناسبة البداوة ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق.

 وهذا القول لا يصلح لتفسير انتشار المذهب المالكي وهيمنته على المغرب، إذ إن عامل الرحلة إلى المشرق لم يكن خاصا بالمغاربة وحدهم بل كان يعم جميع المسلمين، فهم أيضا رحلوا إلى الحجاز لأداء فريضة الحج واتصلوا بعلماء المدينة كما فعل المغاربة، فلماذا لم يتأثروا بالمذهب المالكي وينشروه في بلدانهم كما فعل غيرهم؟ 

ثم إنه لو كان لعامل البداوة أثر يذكر في انتشار المذهب لكان من الأولى أن ينتشر أساسا في الجزيرة العربية والمناطق البدوية الأخرى قبل أن ينتشر في المغرب، أو لكان ذلك على حد سواء.. لكن هذا لم يحدث.

أما قول ابن خلدون عن علم العمران البشري بأنه “علم مستنبط النشأة… لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة”، بأنه قول فيه غموض والتباس يفيد اكتشافه العلم بلا مقدمات، وأتساءل: هل فعلا لم يقف أحد من الخليقة على الكلام في منحاه؟ وهل يرجع ذلك لغفلة منهم أم أنهم كتبوا فيه واستوفوه ولم يصل إلينا؟

وقد يشفع لهؤلاء جميعا أن القرآن الكريم والسنة النبوية قد نصا على أن العمران البشري محكوم بقوانين لا تتبدل، لأجل ذلك لم يتوسعوا في دراسته ولم يفردوه بالبحث.

ومع ذلك يمكن الوقوف على مؤلفات هامة لأصحابها تحدثت مضامينها عما له علاقة بالعمران والاجتماع البشري من مثل رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية (ت 728 هـ)، ومن مثل ما ذكره ابن قيم الجوزية في غير ما موضع من مؤلفاته، وما ذكره الإمام الطرطوشي (ت 520هـ) في كتابه “سراج الملوك”.

بأن مبدأ تغير الأحوال ظاهرة طبيعية واجتماعية يعرفها الناس منذ أن خلقهم الله – تعالى -، فهم يدركونها بالمشاهدة والنظر في أحوالهم الخاصة والعامة، ولهذا قال الناس “دوام الحال من المحال”.

ثم إن القرآن الكريم نص صراحة على مبدأ التغيير الاجتماعي وجعله سنة من سنن العمران البشري، وذلك من مثل قوله – تعالى -“وتلك الأيام نداولها بين الناس” (آل عمران/ 140).

إضافة إلى ذلك فإن الفقهاء منذ زمن الصحابة إلى يومنا هذا بنوا كثيرا من اجتهاداتهم وفتاويهم على قانون تغير الأحوال الاجتماعية، فكانوا يصدرون فتاويهم ويغيرونها حسب تغير الأزمنة والأمكنة وأحوال المستفتين.

والرد على الغربيين الذين أنكروا أن يكون علم الاجتماع إسلاميا يجب ألا يصرف العلماء المسلمين عن الأخطاء التي وقع فيها ابن خلدون وعن دراستها، لا بقصد القدح فيه والتقليل من شأنه، وإنما خدمة للعلم وتحقيقا للنزاهة والموضوعية في البحث الأكاديمي المنهجي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى