الاستهبال في فهم الحياة

جميل السلحوت | فلسطين المحتلة

قبل ربع قرن وكنت في الثّانية والأربعين من عمري، مرّ بي أحد أبناء قريتي، رجل ذو لحية طويلة كثّة يرتدي ثوبا “دشداشا” محدودب الكتفين، يغطي رأسه بكوفيّة وعقال، وفي يده مسبحة 99 خرزة، صافحني بلهجة واهنة كرجل زاد عمره على المئة عام، فهدّته السّنون، انتبه الرّجل أنّني لم أعرفه، فقال لي عاتبا:
يبدو أنّك لم تعرفني… أنا فلان.
تذكّرت الرّجل فهو يصغرني بأربع سنوات، أي كان عمره يومئذ 38 عاما. فسألته عن عمله؟ فأجاب:
” الله يخليلك أولادك، أولادي بشتغلوا، وبصرفوا عالبيت، وحنا بألف نعمة، والحمد لله أنا مرتاح من الدّار للمسجد، ومن المسجد للبيت”.
فسألته:هل أفهم أنّك متقاعد وأنت في هذا العمر؟ هل تعاني من أمراض تقعدك؟ ولماذا كتفاك محدودبان؟
فأجاب: أنا والحمد لله بألف خير، صحّتي جيّدة، وأنا متفرّغ للعبادة.
فسألته مرّة أخرى: هل أفهم من كلامك أنّك زهدت بالدّنيا وتنتظر عزرائيل ليخطف روحك؟
فأجاب: الدّنيا غير مأسوف عليها. ودعا الرّجل لي بالهداية، وكأنّني إنسان ضالّ!
هذا الرّجل-ومثله كثيرون- لفت انتباهي، فأشفقت عليه، وعلى فهمه الخاطئ للحياة، وعدت إلى نصوص دينيّة، لأرى موقف الدّين من الحياة الدّنيا والحياة الآخرة، يقول تعالى:
“هو الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ”أي أنّ الله خلق لكم الأرض لتسعوا فيها طلبا للرزّق، من زراعة وتجارة وصناعة وغيرها من أبواب الرّزق.
ويقول الحديث النبويّ الشّريف:” إِن قَامَت السَّاعَةُ وَفي ِيَدِ أَحَدِكُم فَسِيلَةٌ، فَإِن استَطَاعَ أَنْ لَا يَقُومَ حَتَّى يَغرِسَهَا؛ فَليَغرِسها”، وفي هذا دعوة وحثّ على العمل والانتاج حتّى آخر لحظة في حياة الانسان. ومما جاء في الحديث:” جاء نفر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:إن فلانا يصوم النّهار ويقوم الليل .فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:أيّكم يكفيه طعامه وشرابه؟ قالوا كلّنا، قال كلّكم خير منه”، وفي قول آخر لعبدالله بن عمرو بن العاص وبعض الرّواة يعتبره حديثًا نبويّا جاء فيه:” “اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا”، أي هناك توفيق بين عمل الدّنيا والآخرة. ووردت أحاديث كثيرة بهذا الخصوص منها:”
“كَانَ دَاوُدُ عليهِ السَّلامُ لا يَأْكُل إِلاَّ مِن عَملِ يَدِهِ” وحديث “كَانَ زَكَرِيَا عليه السَّلامُ نجَارا” وحديث “مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَاما خَيْرا مِن أَنَ يَأْكُلَ مِن عمَلِ يَدِهِ”.
فما بال بعض “المسلمين” يبيعون الدّنيا، ولا يفهمون معنى الحياة؟ مع أنّ الدّين لا يدعو لذلك، طبعا والفهم الخاطئ للدّين هو واحد من أسباب عزوف البعض جهلا عن الحياة، ويساهم في ذلك أئمّة المساجد الذين في غالبيّتهم لا يتحدّثون في مواعظهم وخطبهم إلا عن النّار والعذاب، وكأنّ النّار خلقت لتعذيب المسلمين، وأن لا ثواب للمحسنين منهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى