مقام الدعوة والجدال بالتي هي أحسن(3)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

 

ولقد أبدع القرآن في هذا المقام (الدعوة والجدال) مع أهل الكتاب، بعد التوصيف والتصنيف.. وأطنب في التعاطي معه وأسهب.. حيث بدأ بهذه التسمية التي ذكرنا(أهل الكتاب) ثم راح يذكرهم بما جاء في كتبهم، والعهود التي أخذت عليهم وعلى الرسل من قبلهم ..

و حين استخدم الأدلة والبراهين، قد أتى بها إما مسطورة من طيات كتبهم التي بين أيديهم،وقد جعلوا منهاـ كما ذكر ـ “قراطيس يبدونها ويخفون كثيرا “لكنه يؤكد لهم على ورود ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها، تعريفا بشرعه ووصفه (حينا)”الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.”[الأعراف (157)]،

و(حينا) استشهادا بعلامات وأوصاف عرف بها صلى الله عليه وسلم(خَلقا وخُلقا) مذكورة في التوراة والإنجيل(كخاتم النبوة) بين كتفيه، كما جاء في مسند أحمد وكتب الحديث من حديث(سلمان) رضي الله عنه، وقد جاء فيه”.. فَلَمَّا حَضَرَ(أي الراهب الذي كان يتبعه) قُلْتُ لَهُ: يَا فُلَانُ، إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلَانٍ، فَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، وَأَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَى فُلَانٍ، ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلَانٌ إِلَيْكَ، فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي، وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ، وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُهُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ، وَلَكِنَّهُ قَدْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ، مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نَخْلٌ، بِهِ عَلَامَاتٌ لَا تَخْفَى: يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ، وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ.. ، رغم أنه صلى الله عليه وسلم ما قرأ التوراة ولاالإنجيل، ولم يكن يخط بيده شيئا من الكتب “وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.”[العنكبوت (48)].

وقد جاءكذلك من هذه الأوصاف المذكورة في التوراة، كما في صحيح البخاريمن حديثْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، قَالَ: “لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ العَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قُلْتُ: أَخْبِرْنِي عَنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّوْرَاةِ؟ قَالَ: ” أَجَلْ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَمَوْصُوفٌ فِي التَّوْرَاةِ بِبَعْضِ صِفَتِهِ فِي القُرْآنِ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45]، وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ، أَنْتَ عَبْدِي وَرَسُولِي، سَمَّيْتُكَ المتَوَكِّلَ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلاَ غَلِيظٍ، وَلاَ سَخَّابٍ فِي الأَسْوَاقِ، وَلاَ يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ، وَلَكِنْ يَعْفُو وَيَغْفِرُ، وَلَنْ يَقْبِضَهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوْجَاءَ، بِأَنْ يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَيَفْتَحُ بِهَا أَعْيُنًا عُمْيًا، وَآذَانًا صُمًّا، وَقُلُوبًا غُلْفًا “.

وقد استشهد القرآن عليهم بما جاء في التوراة في أكثر من موضع، مثل آية رجم الزاني المحصن حين احتج بها النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءوا يسألونه”قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)(آل عمران)، “وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) ” (المائدة).،

ومن الآيات السابقة نستنبط أن التوراة حين بعث صلى الله عليه وسلم، كانت لا يزال بها كثير مما لم يرد عليه التبديل ولا التحريف، بدليل استشهاد النبي بها والقرآن.. ولا ينفي هذا أن يكون حرف منها البعض، أو كثير أو قليل، وبقي البعض على حاله، لأن القرآن ذكر التحريف في أكثر من موضع “من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه”(النساء)، “يحرفون الكلم من بعد مواضعه” (المائدة).، “يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عندالله ليشتروا به ثما قليلا”(البقرة).

وقد اختلف العلماء في قدر ما حرف من التوراة، ولم يقطع أحد منهم بتحريفها جميعا، أو بقائها جميعا على حالها من التنزيل دون تحريف.. وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أقوال، كما جاء في”شرح كتاب التوحيد من صحيح البخاري”(عبدالله الغنيمان)، :

أحدها: أنها بدلت كلها، وينبغي حمل هذا الإطلاق على أكثرها؛ لأن الآيات والأخبار الكثيرة، تدل على بقاء شيء منهالم يبدل، كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ} (2) ، ومنه قصة رجم اليهوديين، وفيها وجود آية الرجم، في التوراة، ويؤيد ذلك، قوله تعالى:{قُل فَأَتُوْ بِالتَّورَاةِ فَاتلُوهَا إِن كُنتُم صَادِقِينَ} .

الثاني: أن التبديل وقع في معظمها، وأدلة ذلك كثيرة، وينبغي حمل القول الأول عليه.

الثالث: وقع التبديل في اليسير منهما، ومعظمهما باق على حاله، قال: ونصره الشيخ تقي الدين ابن تيمية في “الجواب الصحيح.”.

كذلك حقق القرآن وجه الجدال بالتي هي أحسن للفريق الذي كان يرجى إذعانه وإقباله على الحق، فدعاهم إلى كل قسم مشترك بينهم وبين رسالة النبي صلى الله عليه وسلم،فقال: “قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ.”[آل عمران (64)]، ثم هذا العتاب الرباني على تكذيبهم وصدهم عن الحق وجدالهم بالباطل” يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)[آل عمران].

ورغم هذه الحالة من الإصرار والعنت والصد عن الحق، وبعد أن وصف هؤلاء الذين افتروا على الله كذبا، فقالوا “لله ولدا”، أو قالوا “أن الله ثالث ثلاثة”، فقد نسبهم إلى الكفر الصريح، وتوعدهم بالنار، بعد أن حرم عليهم الجنة “وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)[التوبة].

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73))[المائدة].

ورغم ذلك فقد دعاهم إلى التوية والاستغفار، ووعدهم بالمغفرة والرحمة إن هم أجابوا إلى ذلك وتابوا” أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)[المائدة]، قال ابن عطية “ثم رفق جل وعلا بهم بتحضيضه إياهم على التوبة وطلب المغفرة، ثم وصف نفسه بالغفران والرحمة استجلابا للتائبين وتأنيسا لهم ليكونوا على ثقة من الانتفاع بتوبتهم.”

هذا البيان القرآني، وهذا الحجاج الرباني المفحم، فيه من الرحمة والرأفة، والإدناء والمقاربة، والإمهال.. والوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، ما لو نزل على  الجبل “لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله”، ولكن هذه القلوب وكأنها قدت من الصخر، أو أقيمت مكانها حجارة صفوان، وإن كانمن الحجارة ما يتفجر منه الأنهار، أويشقق فيخرج منها الماء، وما يهبط من خشية الله.!!

ثم جعل لنا من هؤلاء السادرين في اللدد، القاسين لما طال عليهم الأمد،لنا مثلا وحذرا، لئلا نتبع سننهم، فنقع فيما وقعوا فيه، فيحق علينا القول، فراح القرآن يستيقظنا من الغفلة، ويحذرنا من القسوة,, ويحيينا بعد الموات، ويقيمنا مع الذكر لئلا نهلك، فيقول: “أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)”[الحديد].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى