سيرة الفيض

أحمد برقاوي| أكاديمي فلسطيني

 أشياء الوجود،

كل الأشياء،

كانت ناطقة ومازالت،

تجيب حين نسألها ولا نسألها دون حرج أو تذمر،

، وتفشي صادقة أسرارها بلا خوف أو حياء أو خجل،

وحين تتلعثم ننطقها بما أوتينا من دهاء وقسوة العقل.

أتراها كانت تخفي علينا أحوالها؟

 أم ترانا كنا نخفي عنها دهشتنا،

أم  كنا نصغي إليها لنسمع منها ما نريد؟

غريبة تلك النسائم ،

التي تحدثني،

 كلما مررت بها

 ،بلغة لا تشبه الأخرى،

وأصغي إلى الجدول،

وأكتب ما تمليه علي الينابيع شذرات وشذرات.

عواء الذئاب يوقظ فيّ الحنين إلى الكهوف

 وروح الوفاء،

والصخور السوداء التي تختزن آلام النار تحاكي آلامي.

يتساءل الشاعر :

كم لك أيها الأفق من الألسن؟

أأنت أنت الذي تضحك وتعبسوتفرح وتحزن؟ أم أنا؟

يا لغة الأشياء والإشارات

،يا من علّمتَ الخلق التأويل والبحث فيما وراء وعما وراء

قليل هم شعراء البوح وفلاسفة المابعد

 الذين أصغوا لصمتك المدهش.

في عالم لم يعد يغري

لفظت الوردة روحها الأخيرة،

وظلال الزيزفون لم تعد مساكن العشاق،

والغروب ما عاد يوحي بالوداع ،

والفيلسوف الذي لفظ أنفاسه الأخيرة في الغابة السوداء

 لم تحيي الغابات ذكرى رحيله.

حين ودع أحمد شجرة البيلسان في بادية الشام

  وسماءها  ليلة صيف ،

ما عاد له مكان على هذه الأرض

ويعيش الزمان في الخلاء.

الفرِد المتفرد وحده يعيش تجربة الصعود إلى السماء،

على متن أجنحة الكلام التي لا تطيق البقاء في الصدر الممتلئ بصور الآهات،

 ذلك القلب الذي يعيش تحولات القمر،

وأحوال الشمس،

وتوالي الليل و النهار

 وفصول الطبيعة كلها

 يقيم في بيت تعربشت عليه كل ألوان الحياة

من أخضرها إلى أصفرها،

ومن أسودها إلى أبيضها،

ومن أخضلها إلى أيبسها،

ومن أفرحها إلى أحزنها،

 كم مر القلب على الأزهار 

ما كان قطافاً ولا عدواناً

وما في زاوية من زوايا النفس مزهرية

وما في البيت الذي يسكن جدار،

مكان يرسم عليه موت الزهور.

لم تلهم الطبيعة النفس  فجورها وتقواها،

ولا طقوس التقلب على الجمار،

فالطبيعة لا تستعير من روح غريب طبيعتها.

من قال بأني ضليل وحكيم وشاكر وجاحد فقد أتى إثماً مبينا،

فهذا الجسد هو نفسه روح التحول الحر

ولا يصغي إلا لذاته.

أيها الآمر الناهي الذي يراقبني حاملاً سيف المايجب ،

أغرب عن وجهي ولا تحجب عني أنواري وطقوس الحياة.

وتسألني النفس وماذا بعد ؟

وهي تعرف كل الدروب التي مشى عليها سكان الحروف،

والوجود لن يُسكِن في أبديته أرواح النمال.

أيها الأموات المتربعون على صدر الحياة،

لا تسردوا عليّ  أكاذيب ماضيكم القديم،

لا تسردوا علي خيالاتكم وأوهامكم وأحقادكم،

لا تسردوا علي أسماء الطغاة،

أما تعلمتم من أمكم الطبيعة الصمت،

الطبيعة التي لا ذاكرة لها

ولَم تحفل بأصلها وفصلها،

وتمضي في سيرورة الوجود طليقة من لجام كنا وكان .

أيتها الأكفّ التي تصفق لجعجعة الكلام،

ولقعقعة القصائد المتطاير منها البرق الخلبي،

هو القبح ينز من أصابعكم.

يا أشجار الكينا والبطم و السرو ،

لا تظللي أحداً ممن طعنوا الفؤاد

،يا شجر التين و الزيتون و الليمون لا تطعم سرّاق الزمن والأمل،

، أيتها البراكين و العواصف و الزلازل تأخرت طويلاً طويلاً،

فلم يعد للحياة من أبناء.

أيها الطوفان لا تخبر أحداً بقدومك كي لا ينجو من الخلق إلا من كان طوفانا،

أيها الحكماء الذين سخرت منهم الطبيعة حين راحوا  يبحثون عما وراء الجمال

،وعمن صنع السحر وروعة الأشياء وجلالها

  آن لكم أن تتواروا تحت عن الوجودإلى الأبد.

كلما فرغتْ ذاكرتي

و تحررت  من بعض  الممض المخزون فيها

امتلأت بالأمض،

فينابيع الحياة لا تلقي بالاً لما أريد.

عبثاً تحاول الممحاة مع الخطوط السوداء

ولا تقرب  الخضراء

حباً بالبقاء ،

وخوفاً من الفناء.

أيها العدم الباقي حائماً في دائرة الوجود،

متشبثاً بأظافرك الوحشية

بتلابيب الذاكرة،

هلّا تواريت في الليل

عن وسادتي

كي أستصبح بأحلام وردية

تمنحني الرغبة في الفرح،

واستقبال الشمس التي لا يراها أحد.

هناك أشواق على الأرصفة لا تمل من الإنتظار،

وتلويحه نسيت ذاتها،

وسكنت الأفق والفضاء.

أيتها الأقفال التي تحرس القلوب

من أن تطير،

ما يسكن القلب جني بيده خاتم سليمان.

أسرار الذاكرة مثقلة بالهموم،

لا سر في الذاكرة إلا ما كان شجراً في الذات،

تستسقيها أمطارها،

وحده شجر الذاكرة المختبئ في واحات الهوى

ممطر،

يسقي ذاته من ذاته

والجذور  تعزف موسيقا البقاء

بلا تأفف.

أسبق الزمن كي أرى ما سيكون،

ويلحق بي زمن كان

يناشدني أن لا أرميه في سلة نفايات العمر

أقهقه مندهشاً:

من قال بأني سيد على مشيئتي و الزمان

 لا الخواء وليد مشيئتي

ولا الإمتلاء

أنا واحد ولست اثنين

فكيف لي أن أنفصل :

فضت عن الهوى

ووجودي هوىً،

فكلما استثنيتُ وتكثرت عل حين غرة

عدت إلى سيرة الفيض.

عقلي المشحون بكل لاءات التساؤل

 مرجع ذاته

أنا هو وهو أنا،

فالظاهر هو الباطن

والباطن هو الظاهر.

 حبي هوىً

فأنا المتماهي بمن أهوى

ومن أهوى متماهٍ بي

ولست حلاج هذا العصر

فأنا الحاضر في العيان

والحالم بالعيان،

أفنى بجسد حبيبتي

و وأغيب في روحها

وحين أمشي على ضفة بردى

فلا أعود أدري أأنا النهر أم النهر أنا

ومن منا الذي يجري.

تشربني الخمرة التي أشربها،

والموسيقى معزوفة روحي،

وفِي الصباح أغدو صباحاً

وفِي المساء أصير المساء.

أنا أحرف الهجاء التي أسويها كلاماً

و التي تكتبني حين أكتبها،

أنا الألم الذي يتألم

و الفرح الذي يفرح

والحزن الذين يحزن

الواحد حين يتكثر

 و الكثير حين يتوحد

ما من مرة مشى الماضي ورائي

ولحق بي أو صار أمامي.

والوجود هوىً وولادة .

من أنا يتساءلون:

آمر ومأمور في اللحظة نفسها

ما أنا الذي ألقى البذار في ذاتي

هي الريح حملتها إلي دون أن أدري

والريح تسكنني،

والشجر الذي أينع أينع دون أن أدري،

والشجر يسكنني.

أما ذاك الصندوق الخشبي،

الذي يرتب أشياءه ليحفظها،

ويراقبني

خاوٍ من أناه.

أنا المبعثر في البلاد ،

يتراءى للخلق بأني كثير

وأنا الواحد الذي يظهر

ويكتب سيرة الفيض،

لا كما يشاء

بل كما شاء الفيض

قبل جفاف الينابيع

الينابيع التي تسكنني .

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى