من أوراق أمل دنقل الدرامية.. في ذكرى رحيلة

عبد النبي عبادي | شاعر و ناقد مصري

في قصيدته ( من أوراق أبي نواس) يقول أمل دنقل:

(الورقة الأولى)

” ملك أم كتابة ؟ “

صاح بي صاحبي, و هو يلقى بدرهمه في الهواء

ثمّ يلقفه ..

(خارجين من الدرس كنّا .. وحبر الطفولة فوق الرداء

و العصافير تمرق عبر البيوت ،

و تهبط فوق النخيل البعيد !)

” ملك أم كتابة ؟ “

صاح بي .. فانتبهت ، ورفّت ذبابة

حول عينين لامعتين ..

فقلت : ” الكتابة “

.. فتح اليد مبتسما ؛ كان وجه المليك السعيد

باسما في مهابة !

***

” ملك أم كتابة ؟ “

صحت فيه بدوري ..

فرفرف في مقلتيه الصبا والنجابة

و أجاب : ” الملك “

دون أن يتلعثم .. أو يرتبك

و فتحت يدي ..

كان نقش الكتابة

بارزا في صلابة !

دارت الأرض دوراتها ..

حملتنا الشواديف من هدأ النهر

ألقت بنا في جداول أرض الغرابة

نتفرّق بين حقول الأسى .. و حقول الصبابة .

قطرتين , التقينا على سلّم القصر ..

ذات مساء وحيد

كنت فيه : نديم الرشيد

بينما صاحبي .. يتولّى الحجابة !!

***

(الورقة الثانية)

من يملكُ العملةَ يمسك بالوجهين

والفقراء بين بينْ!

***

(الورقة الثالثة)

نائما كنت جانبه؛ وسمعت الحرسْ

يوقظون أبي !

– خارجيّ

أنا .. !

مارق

من ؟ أنا !

صرخ الطفل في صدر أمّي

( و أمّي محلولة الشعر واقفة في ملابسها المنزليّة )

– اخرسوا

واختبأنا وراء الجدار

اخرسوا

تسلّل في الحلق خيط من الدم

كان أبي يمسك الجرح ،

يمسك قامته .. و مهابته العائليّة !

يا أبي

اخرسوا

و تواريت في ثوب أمّي ، و الطفل في صدرها مانبس

ومضوا بأبي تاركين لنا اليتم متشحا بالخرس

***

( الورقة الرابعة )

أيها الشعرُ .. يا أيها الفرحُ المختَلَسْ

… … … …

كل ما كنت أكتب في هذه الصفحة الورقية

صادرته العسس

… … … …

( الورقة الخامسة )

… و أمّي خادمة فارسيّة

يتناقل سادتها قهوة الجنس وهي تدير الحطب

يتبادل سادتها النظرات لأردافها..

عندما تنحني لتضيء اللّهب

يتندّرُ سادتها الطيبون بلهجتها الأعجمية!

***

نائما كنت جانبها ، ورأيت ملاك القدس

ينحني ، و يربّت وجنتها

و تراخى الذراعان عنّي قليلا

و سارت بقلبي قشعريرة الصمت

– أمّي ; و عاد لي الصوتُ

– أمّي ؛ و جاوبني الموتُ

أمّي ؛ و عانقتها .. و بكيت

و غام بي الدمعُ حتّى احتبسْ !

***

( الورقة السادسة )

لا تسألني إن كان القرآنْ

مخلوقا أو أزليّ

بل سلني إن كان السلطانْ

لصّا .. أو نصف نبيّ

( الورقة السابعة )

كنت في كربلاء

قال لي الشيخ : إن الحسينْ

مات من أجل جرعة ماءْ

… … …

و تساءلت كيف السيوف استباحت بني الأكرمين

فأجاب الذي بصّرته السماء:

… … …

إن تكن كلمات الحسين

و سيوف الحسين

و جلال الحسين

سقطت دون أن تنقذ الحقّ من ذهب الأمراء

أفتقدر أن تنقذ الحقّ ثرثرة الشعراء

و الفرات لسان من الدم لا يجد الشفتين ؟ !

***

مات من أجل جرعة ماء

فاسقني يا غلام صباح مساء

اسقني يا غلام ..

علّني بالمدام ..

أتناسى الدماء !

(1)

لم يخلُد أمل دنقل في وعي الشّعراء الذين أتوا بعده لأنه ” أمير شعراء الرفض “؛ إذ لا أعتقدُ أن الرفض السياسي مقياسٌ للشاعرية لا سيما وأنه يجئ – غالبا- في لغة مباشرة لدى كثير من الرافضين. وقد تحاولُ اللغة المباشرة أن تُراوغ وتناور باستخدام ” التراث” الذي تتقنّعُ خلفه، لكن السّياق فضّاحٌ وهو لدى المُتلقي العاديّ والمتخصص حاكمٌ للقراءة والتلقي ومفسّر للنصوص على نحو ما.

إن ما جعل من أمل دنقل شاعرا مُهما هو رؤيته للعالم في مجمل شعره ، ليس من باب اعتبار نفسه (كشاعر) مركزا للكون ولا نبيّا، فهو يطلب الخَبَر لدى (العرافة المقدسة) ولا يدّعيه! لكنه يرى العالمَ وفق إطارين أساسيين قد تندرج تحتهما عناصر أخرى، لكننا نردها في النهاية لرؤية أمل دنقل للعالم من خلال ( التراث والموت). وهو لا يستخدم ” التراث” كمُقدّسٍ، بل يستخدمه كقناعٍ يواجه به الماضي والحاضر بشكل مزدوج.

أما عن تصنيف أمل دنقل شعريا أو حتى تجييله، فالتصنيف والتجييل يوفران قوالب جاهزة لمن يود أن يُطلق أحكاما عامة تجاه شاعر معين، فيُسقط عليه كل قضايا زمنه عسفا وقد يحكمُ له بما في كثير من جيله لكنه ليس في الشاعر محل النّظر. لكننا نلجأ إلى ” التجييل” منفردا كي يمنحناالفرصة لرصد ما يقدمه كل شاعر للتراكم الإبداعي ومقدار ما يخطوه من خطوات في اتجاه مستقر سلفا أو جديد.

إذن أستطيع أن أقول إن دراسة شعر أمل دنقل ستؤدي بنا إلى نتائج تختلف باختلاف المنهج المتّبع، وهذا أمرٌ طبيعي. وبالتالي تكون محاولات تصنيف أمل كشاعر “حداثي” أو “رومانسي” غير ذات منفعة إذا اكتفت بواحدٍ من التصنيفين وغضت الطرف عن الآخر ظنا منها أن هناك فواصل حادة بين مراحل الشعرية العربية وهو ما أنفيه لأن بذور وإشارات المراحل اللاحقة كانت تتحرك في مراحل سابقة بشكل ما.

(2)

لكن هناك ملمحا بارزا في كثير من شعر أمل دنقل وهو ما استوقفني كثيرا في قراءة شعره وهو ملمح “الدراما” في شعر أمل دنقل وهو ما يمكن دراسة تشكيله وتأثيره في شعره. يقول الدكتور محمد عروس : ” إن البناء الدرامي يتعلق أساسا بالمسرح وبالتالي يعد البناء الدرامي مظهرا لتداخل الأجناس الأدبية في النص الشعري. وقد تتكون البنية السردية للقصيدة من جملة عناصر بنائية استقتها من الرواية والمسرح والسينما وهي عناصر : الحدث- الحوار – الفضاء- الشخصيات- الزمان وبالتالي ينتج عنها ما يسمى البناء الدرامي للقصيدة متداخلة الأجناس.”(2) ولي أن أسوق عددا من العناصر الموجزة التي توضح مسرحَة القصيدة أو الملمح الدرامي في شعر أمل دنقل والذي تشكل من خلال تكنيكات وهي :

(أ) تعدد الأصوات :

لعل واحدة من القصائد التي يتجلى فيها ذلك الملمح بشكل مؤثر وفعال هي قصيدة ” من أوراق أبي نوّاس”. أجدُ نفسي- كقارئ- هنا في مواجهة ستة أصوات من بينها صوتٌ مزدوج فيصبح المجموع سبعة أصوات هي :

أولا : صوت الصاحب.

ثانيا: صوت الشاعر ( ثالثا : صوت السارد/ الشاعر).

رابعا: صوت الحرس.

خامسا: صوت الأب

سادسا: صوت الطفل (صَرَخ).

(2)

سابعا: صوت الشيخ ( في كربلاء).

ولا يعنيني التعدد في ذاته، لكن وظيفته الشعرية (الإيقاعية) و الدرامية هي التي تعنيني ، فقد حقق هذا التعدد وظيفتين :

أولا)- الوظيفية الدرامية :

لقد خلق ذلك التعدد “صراعا” متصاعدا بحيث وجدتُ في كل مشهدٍ حواري تصاعدا يؤدي إلى نهاية فاصلة تتجلى فيها التراجيديا أو المأساة بشكل مركز في سطر شعري ( توضيح ذلك في الشكل (١)). سنلاحظ أنه في أربعة مشاهد حوارية تداخلت الأصوات مما ساهم في خلق البناء الدرامي المتصاعد الذي تحاول فيه كل شخصية أن تنطق بمأساتها وصولا للخسارة في نهاية كل مشهد.

ثانيا)- الوظيفة الشعرية ( الإيقاعية) :

(ب)- البناء المشهدي :

لابد أن نفرق بين حديثين؛ حديث البناء المشهدي وحديث اللغة المشهدية لأن الثاني جزء من الأول. وإذا كنا نتحدّثُ في مجال الميديا عن “صناعة الصورة”، فإننا نُشير إلى تقنيات الفيديو المجاورة والرئيسية التي تقدم المادة المصورة بدرجةِ وضوح وتفاصيل عالية حسب غرض بث الصورة. والحديث عن ” البناء المشهدي” في الشعر هو حديث عن كل ما من شأنه صناعة المشهد في ذهن المتلقي بشكل يوازي تماما ” البصري”، إنه نوع من ” الإيهام السينمائي” الذي حققه ذلك النص كما في كثير من نصوص أمل دنقل. لقد تحققت فاعلية البناء المشهدي من تعدد مستويات الخطاب الشعري في النص الواحد؛ لو نظرنا إلى النص الذي بين يدينا الآن سنجدُ في مستويات ثلاثة للخطاب الشعري وهي : الحوار ( الذي خلق الصراع المتصاعد ) والوصف ( الذي مرره الشاعر في النص أو بين قوسين) والتشخيص ( الذي جاء تعقيبا على كل مقطع حواري).

ج)_ استخدام الأقواس :

يبدو دائما أن الشاعر مشحونٌ بما هو فوق طاقة النص. وتسعى الأصوات المتداخلة التي في رأس الشاعر إلى الظهور على الورق، فيأتي دور الوعي الشعري الذي يمارسه الشاعر فيضع هذه الأدوار والأصوات في مكانها الملائم في النص دون تزاحمٍ يخل بتكثيف النص أو يُفتت أثره فتتلاشى قيمته. ويستخدم أمل دنقل الأقواس متقاطعا في ذلك مع الكتابة المسرحية التي تُشكّل  فيها الأقواس حلقة وصل بين النص والعرض. لكن استخدام أمل دنقل للأقواس يحقق وظائف:

–  التعليق على الحدث في النص (الشعر-سردي) وكأننا حيال (الراوي) الذي لا يسمح للتفاصيل للمهمة أن تتفلّت من بين يديه فيحاول الإمساك بها وفق شروط الشعر وليس السرد.

–  يمكن اعتبار ذلك أيضا ” الرسول الرسمي” الذي يتدخل بشكل ثانوي ليحكي أحداث المسرحية أو يؤكد واقعيتها.

– تحديد مكان وزمان الحدث الذي تُأوّله القصيدة شعرا.

–  تأكيد النزعة الدرامية باستخدام الأقواس كالكاميرا التي ترصُد المشهد من جوانب خاصة تخدم المتن ليس باعتبار القوس هامشا، بل باعتباره “حال” القصيدة.

–  تتيح الأقواس للشاعر في النصوص الشعرية الدرامية أن يلعب أكثر من دورٍ إلى جانب دور الراوي.

د)- تقسيم النص إلى مقاطع/أوراق/مشاهد :لقد قسم أمل دنقل قصيدة ” من أوراق أبي نواس” إلى مقاطع تبدأ ب ” الورقة الأولى ” وتنتهي ب” الورقة السابعة” مما يوحي أنها قد تنفصلُ عن بعضها البعض كنقل مشهدي لأيام الأسبوع. لكن المتأمل للنص يجدُ أن كل مقطع متبوع بمقطع مُعقّبٍ عليه وشارح له. ( أنظر شكل 2) وقد لعب ذلك دورا ملموسا في تحقيق وحدة الجو النفسي للنص الشعري تماما كما في العمل المسرحي الدّرامي.

               إن شعر أمل دنقل مجال خصب لدراسة الكثير والمثير المتعلق بالنص الشعري حديثه وحداثيّه من الموضوعات التي شكلت حضورا مستمرا في وعي الشعراء والقراء مثل “التناص” “والتراث” “والتشكيل البصري” “وفلسفة الموت” و”البناء الدرامي” و”لُعبة الأقواس” بتعبير صلاح فضل و”القناع” و “تداخل الأجناس الأدبية”، إنه شعرٌ غني صادق يُغري بالتّناول إذا صحّت الهمم وصدقت النّوايا. لا نتناوله باعتباره قدس الأقداس ولا إلها في ملكوت الشعر ولا وصيا على أحد، لكننا نتناوله من باب اللغة والصورة والإيقاع والرؤية التي بدت دائما سهلة وقريبة ومألوفة لكنها ساحرة ومتشابكة.. وغير ذلك من الأبعاد التي يمكن معالجتها تاريخيا ووصفيا وتحليليا وفنيا واجتماعيا وثقافيا.. وغير ذلك مما يمتلك النقاد الجادون مفاتحه وغيرهم من الشعراء المهتمين.

هوامش :

(1) مختارات من شعر أمل دنقل، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2005،ص 140-145.

(2) محمد عروس، حركة البناء الفني للقصيدة الشعرية السردية، موقع : https://platform.almanhal.com

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى