اضطراب تفكك الهوية وعلاج الإدمان

كتبه: دان فاجنر    2020 – ترجمة وتنسيق: د. محمد السعيد عبد الجواد أبو حلاوة – أستاذ الصحة النفسية المساعد، كلية التربية، جامعة دمنهور

أولاً- مقدمة:

كان يطلق على اضطراب تفكك أو انحلال الإنية أو الهوية dissociative identity disorder (DID) فيما سبق “اضطراب تعدد الشخصية multiple personality disorder“، ويتميز اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية “ذاتية الشخص”، بحالة كون الشخص يمتلك أو يتبدى عليه شخصيتين أو أكثر (أو كأنه مسكون بشخصية أخرى في بعض الثقافات فيما يعرف بالثقافات الشعبية “الشخصية الملبوسةexperience of possession“)، فضلاً عن معاناته من فجوات جوهرية في الذاكرة الخاصة بتكوينه وهويته وشعوره بذاته ككيان أو كشخص.

ويبدو أن من يعانون من مثل هذا الاضطرابات تعرضوا في حياتهم لضواغط نفسية أو أحداث ضاغطة شديدة مثل الصدمات النفسية أو خبرات سوء المعاملة والإهمال في مرحلة الطفولة، فضلاً عن الحياة في ظروف معيشية عصيبة قوامها القسوة والعنف والحرمان.

ويعد اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية حالة غير شائعة، إذ يبلغ معامل حدوثها حوالي (1,5%) من السكان، ويعتقد أن هذا الاضطراب أكثر شيوعًا بين الذكور إذ تبلغ النسبة (1,6%) في حين تبلغ نسبة شيوعه بين الإناث (1.4%).

وغالبًا ما تتبدى على المصابين بهذا الاضطرابات عديد من الأعراض المصاحبة أو ما يعرف بالحالات المرافقة أو المقترنة مثل: تعاطي العقاقير أو سوء تعاطي المواد المخدة، اضطراب كرب ما بعد الصدمة، الاضطرابات الاكتئابية، اضطرابات الأكل، واضطرابات النوم.

وعادة ما يتضمن علاج اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية استخدام صيغ العلاج النفسي، وربما يتم في نفس الوقت اللجوء إلى استخدام العلاجات الدوائية أو الطبية، وجدير بالإشارة إلى أن علاج الاضطرابات المتصاحبة أو المقترنة أو التي تترافق معًا مثل: اضطراب الهوية التفككي أو انحلال الإنية والإدمان مدخلاً علاجيًا تكامليًا يجمع في تركيبته بين العلاجات النفسية والعلاجات الطبية أو الدوائية. 

 

ثانيًا- أعراض اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية:

تتمثل الخاصية المفتاحية أو المركزية في اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية في تشوه واختلال هوية الشخص disrupted identity كما يستدل عليها بوجود شخصيتين متمايزتين أو أكثر في تكوينه النفسي غالبًا متناقضتين، ربما يكون لكل هوية منها اسمًا مع ملامح وخصائص وطرائق تصرف وأصوات متمايزة وفريدة، وقد يسمع الشخص الأصوات أو يجري داخل تكوينه النفسي حوارات داخلية بين هويات وأصوات أو ذكريات متعددة تقتحم هكذا عنوة أنشطة حياته اليومية.

وعادة ما ينقسم اضطراب تفكك الهوية إلى نمطين: نمط حوازي قهري وسواسي اقتحامي للبنية النفسية للمصاب دون قدرة منه على ضبطه، وصيغة غير حوازية أو غير قهرية أو غير وسواسية:

– الصيغة الحوازية أو الامتلاكية: تتصارع داخل الشخص هويات مختلفة وتبدو واضحة للناس وللشخص المصاب بالاضطراب كما لو أن شخصًا آخرًا يحتل تكوينه النفسي ويسيطر عليه.

– الصيغة غير الحوازية أو غير التملكية: وتكون فيها الهويات المتداخلة في بنية الشخص ليست واضحة أو لا علامات خارجية دالة عليها، وبدلاً من ذلك يخبر الشخص على المستوى الذاتي الداخلي وجود مثل هذه الهويات، وربما يشعر الشخص المصاب بأنه كما لو كان ينظر لنفسه من مسافة بعيدة أو يرى شخصًا آخرًا في ذاته.

بالإضافة إلى ما سبق قد يخبر المصابون باضطراب تفكك الهوية “اضطراب الهوية الانحلالية أو التفككية” ما يعرف بفقدان الذاكرة أو النساوةamnesia فيما تتضمنه من فجوات في ذاكرة الأحداث الماضية، أو هفوات وانتكاسات في ذاكرة أحداث الحياة اليومية الحالة وفقد المهارات التي كانوا يجيدونها، وربما يتوافر لديهم شواهد على أنشطة معينة لكن لا يتذكرون أنهم قاموا بها أو فعلوها.

ويتضمن اضطراب الهوية الانحلالية أو التفككية أعراضًا أخرى من بينها:

– آلام شديدة في الرأس.

– أوجاع وآلام متنوعة.

– اكتئاب.

– قلق.

– تشويه الذات وإيذاءها جسمانيًا.

– سلوك انتحاري.

– عجز جنسي وظيفي.

– هلاوس (كجزء من ذكريات الماضي).

ثالثًا- التأثيرات قصيرة الأجل وطويلة الأجل لاضطراب تفكك أو انحلال الهوية:

يمكن أن تتضمن التأثيرات طويلة الأجل لاضطراب الهوية التفككية زيادة احتمالات الإقدام على معاقرة الكحول والخمور وسوء تعاطي العقاقير والمواد المخدرة، وزيادة مخاطر الانتحار، وتعدد سلوك إيذاء الذات، فضلاً عن اختلال جوهري في العلاقات الاجتماعية مع الآخرين.

وعادة ما يكون الآباء المصابون بهذا الاضطراب غير متاحين انفعاليًا لأطفالهم وغالبًا ما يهملون أطفالهم ويقسون عليهم ويسيئون معاملتهم، فضلاً عن عجزهم عن أن يكون نماذج سلوكية حسنة أمام أطفالهم.

والأمر الأكثر خطورة فيما يتعلق بالآباء ذوي اضطراب الهوية التفككية أو الانحلالية ما يعرف بالأساليب المختلفة للوالدية بما يترتب على ذلك من تعريض الأطفال للخطورة وحرمانهم من الأمن والسلامة الشخصية والنفسي؛ ذلك لأن تعدد هويات الآباء يعني تعدد وتناقض شديد في القيم وأساليب التهذيب وذكريات الروتين اليومي، وقد يكون لدى الآباء هويات ذات مسيئة تضع الأطفال في مواقف يمكن أن تمثل أزمة وشدة ومحنة وصدمات لهم.

من جانب آخر يعاني ذوو اضطراب الهوية التفككية أو الانحلالية من صعوبات ومشكلات واختلالات جوهرية في علاقاتهم الشخصية مع الآخرين، ولهذا الاضطراب تأثيرات في نفس الوقت على الأداء النفسي الوظيفي للشخص في مجالات حياتية متعددة منها مجال العمل، على سبيل المثال ربما يقع الشخص الذي لديه هوية غاضبة في خلافات وصراعات وشقاق دائم مع زملاء العمل أو مع رؤسائه في العمل.

ويضاف إلى ما تقدم أن ذوي اضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية يتطور لديهم نطاق واسع من اعتلالات الصحة النفسية “الاضطرابات النفسية” منها: الاكتئاب، كرب ما بعد الصدمة، القلق، اضطرابات الشخصية، اضطرابات الأكل، اضطراب الوساوس ـ الأفعال القهرية، اضطرابات النوم، الاضطراب التحولي، واضطراب العرض الجسماني.

خامسًا- علاج اضطراب الهوية التفككية أو الانحلالية “تفكك الهوية أو انحلال الإنية”:

يستهدف علاج اضطراب الهوية التفككية أو الانحلالية ما يلي:

– تخفيف الأعراض المرضية.

– الحفاظ على أمن وسلامة الشخص والمحيطين به.

– تضمين الهويات المختلفة في هوية واحدة متناسقة جيدة التوظيف well-functioning identity.

على أن يركز المعالج النفسي في سياق عملية العلاج على مساعدة الشخص في وصف وفهم ومعالجة ذكرياته المتعلقة بالأحداث الصادمة التي تعرض لها في حياته، وتنمية مهارات المواجهة والتوافق الإيجابي، وتحسين الأداء النفسي الوظيفي، وتمكينه مع تكوين علاقات اجتماعية ودية وإيجابية مع الآخرين.

وفي إطار هذا التصور يعد العلاج النفسي الكلامي Talk therapy المدخل المركزي في علاج اضطراب تفكك الهوية، وربما تتخذ الجلسات العلاجية صيغة التطبيق الفردي أو الجماعي.

من جانب آخر عادة ما يستخدم العلاج السلوكي Behavior therapy لكونه صيغة علاجية تساعد ذوي اضطراب تفكك الهوية على الارتباط بالحاضر بوعي وتفهم وخفض ردود الأفعال السلبية للأشياء التي تذكرهم بالصدمات الماضية.

وفي إطار هذه الأهداف تتضمن العلاجات النفسية لاضطراب تفكك الهوية أو انحلال الإنية الأنماط التالية:

– العلاج المعرفي ـ السلوكي Cognitive behavioral therapy: للعمل على تغيير أنماط التفكير والمشاعر والسلوكيات المختلة وظيفيًا.

– إزالة التحسس وإعادة المعالجة عن طريق حركة العينEye Movement Desensitization and Reprocessing (EMDR): إذ يمكن من خلالها علاج ذوي الكوابيس الليلية، والذكريات الماضية الاقتحامية أو الجائحة، وغير ذلك من أعراض كرب ما بعد الصدمة.

– العلاج الجدلي ـ السلوكيDialectical behavior therapy: ويستخدم في علاج ذوي اختلالات الشخصية والأعراض التفككية المرتبطة ب أو الناتجة عن سوء المعاملة والصدمات الماضية.

– العلاج الأسريFamily therapy: ويتم بموجبه تعليم الأسرة كل ما يتعلق باضطراب تفكك الهوية وكيف ينمكن مواجهته والتوافق معه ومساعدة الحالة على تجاوزه.

– فنيات التأمل والاسترخاءMeditation and relaxation techniques: حيث يتم تعليم ا لناس كيفية تحمل الأعراض والتعايش معها بهدوء، فضلاً عن تنمية الوعي بالذات.

وقد يتم اللجوء في بعض الحالات إلى استخدام العلاج بالتنويم المغناطيسي والأدوية، إذ يمكن من خلال فنيات التنويم مع ذوي اضطراب تفكك الهوية الكشف عن الأفكار والمشاعر والذكريات المتعلقة بالصدمات التي تعرضوا لها في حياتهم الماضية، أما الأدوية مثل مضادات الاكتئاب ومضادات القلق فيمكن استخدامها تحت إشراف طبي مهني.

 

خامسًا- ما العلاقة بين المرض النفسي وسوء استخدام العقاقير؟

على الرغم من ندرة المعلومات عن اضطراب تفكك الهوية “اضطراب الهوية التفككية” وسوء تعاطي العقاقير والمخدرات، غالبًا ما يقترن الاضطرابين معًا. ويوجد في واقع الأمر عديد من الدراسات المتاحة التي ناقشت المرض النفسي بصفة عامة في ارتباطاته بسوء تعاطي العقاقير أو المواد المخدرة، ففي سنة 2017 وجد أن (8,5) مليون شخص في الولايات المتحدة الأمريكية لديهم كل من “مرض نفسي” وفي نفس الوقت “واضطراب سوء تعاطي العقاقير أو المواد المخدرة”.

وغالبًا وفي عديد من الحالات يحدث الاضطراب النفسي مقترنًا بسوء تعاطي أو تناول العقاقير معًا في نفس الشخص، ويمكن تفسير هذا الاقتران على النحو التالي:

– ربما يستخدم الشخص المخدرات أو العقاقير والكحول كنوع من المعالجة الذاتية لأعراض مشكلته النفسية أو اضطرابه النفسي.

– ربما تنشط المواد أو العقاقير المخدرة أعراض الاعتلالات النفسية.

– يعتقد أن لكلا الاضطرابين “اضطراب تفكك أو انحلال الهوية”، و “اضطراب تعاطي العقاقير المخدرة والكحول” نفس الأسباب، مثل تغيرات الأداء الوظيفي للدماغ، الاستهداف التكويني أو الجيني، والتعرض لخبرات صادمة وأحداث ضاغطة في الطفولة.

وعندما يقترن وجود اضطراب نفسي مع سوء تعاطي المواد والعقاقير المخدرة لدى نفس الشخص يطلق على هذا الأمر “التشخيص الثنائي”؛ وبالتالي لابد من علاج الحالتين التزامن لتحقيق تعافي أسرع وأفضل وكامل.

وفقًا للتحالف الوطني للأمراض النفسية فإن طرائق العلاج التكاملي تساعد المضطربين على الإدارة المتزامنة للاضطراب النفسي وفي نفس الوقت اضطراب تعاطي المواد والعقاقير المخدرة وتشمل ما يلي:

– المقابلة التحفيزية أو المنشطة للهمة والدافعية العلاجية Motivational interviewing

– برنامج مساندة الأقران المكون من (12) خطوة.

– العلاج المرتكز على تفكيك بنية الصدمة Trauma-informed therapy مثل البرامج التي تساعد العملاء على الشعور بالأمن والسلامة والطمأنينة على الذات وممارسة قدر من السيطرة على حياتهم.

– اليقظة العقلية والانفتاح العقلي والوعي العمدي المفعم بالتركيز والانتباه على الحاضر، بما يمكن معه للعميل أن يزداد وعيه بأفكاره ومشاعره وإحساساته غير المريحة وتقبلها وعدم الحكم عليها وعدم التوجه للوم الذات، بل التدبر في طرائق مواجهتها إيجابيًا.

وما يجدر التنويه إليه أنه قد لا يوجد ما يمكن تسميته شفاءً أو تعافيًا نهائيًا وتامًا من اضطراب الهوية التفككية أو الانحلالية والإدمان خاصة حالة اقترانهما معًا الأمر الذي يتطلب رعاية علاجية مهنية متخصصة وذات طابع مستمر.

ومع هذا التنويه لا يجب أن يعتري الإنسان الخوف إذ أن التدخل المهني المتخصص والخطط العلاجية المنتظمة تزيد من احتمالات أن يعيش الشخص حياة مرضية ومثيبة وقريبة من حياة العاديين. 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى