حكمت المحكمة ( اهداء من التونسية هاديةحساني

كميل أبو حنيش/ فلسطين 

الإهداء للأديب والأسير الفلسطيني #كميل_أبو_حنيش المحكوم بتسع مؤبدات وثمان وسبعين سنة ومن خلاله لجميع الأسرى..(لكل الناس وطن يعيشون فيه الا نحن فلنا وطن يعيش فينا)

قصة قصيرة : هدنة حزينة

“حكمت المحكمة حضوريا على المتهم كميل أبو حنيش بتسعة مؤبدات وثمان وسبعين سنة سجنا.”

في تلك اللحظة لم أتفاجأ، ولم أشعر
بشيء، لا شيء، لا حزن، ولا حتى هدنة حزينة.* لكنني آبتسمت، آبتسمت فحسب، ابتسامة لا معنى لها، حين نظرت بآتجاهها، استشعرت أنني قد آسترددت احساسي دفعة واحدة، وخزة شديدة بقلبي كالصعقة، ثم آعتصارا، لم يحركني حكمهم، مثلما زلزلتني دموع أمي، التي ارتمت على القضبان مادة إلي يديها، لكن صف الجنود المتمترس أمامي منعها بفظاظة وغطرسة..

قيدوا يدي، وجرجرني جنديان بلا رحمة، والقيود تكبل حركة رجلي، من ذلك القفص الحديدي، الشبيه بقفص حيوان متوحش، لم أعد أحس بالألم، رغم تلك الالتهابات الناتجة عن آحتكاك الحديد ببشرتي.

حين صرنا خارج المحكمة، يصفعني ضوء الشمس المتوهجة، أحشر داخل سيارتهم وهي عبارة عن قفص ثان، وأدركت من كلامهم إسم السجن الذي سأقضي فيه التسعة مؤبدات والثمان وسبعين سنة، أبتسم مجددا.

قبل آنطلاق السيارة، نظرت في أعينهما الزائغة، شعرت بآرتياح، نعم، يكفيني أن أرى فيها الخوف، لفحتهم نظراتي الحارقة، ابتسمت، انتفضا، وجها رشاشتيهما نحوي، ابتسمت بأكثر وضوح، ازداد جنونهما، قفز أحدهما،إنحنى واضعا فوهة سلاحه على رأسي، ناورته ساحبا رأسي جهة اليمين، وأنا في وضعية ميلان، رمقته بنظرة ثاقبة كانت قادرة أن تحرك جبلا، تراجع قليلا فاتحا رجليه ليحافظ على توازنه، أمام سرعة السيارة، وميلانها في المنعرجات، تطلع خارجا، بينما وجه زميله سلاحه نحو صدري، حين أشحت بصري عنهما، انتبهت للإحمرار برجلي، وعندها فقط أحسست بحرقة.

لمحت الرقم الملصق على صدري، ثلاثة آلاف ومائتان وستة، أيكون مجرد رقم، أم هو عدد المساجين بذلك السجن ؟

مذ ذلك اليوم لم أر أمي إلا بعد ثلاثة أشهر، وهي الوحيدة المسموح لها بزيارتي، أراها من وراء البلور، صرت أتمنى حضنها، ولو مرة، مرة واحدة، ولم أحتضنها إلا بعد سنة، وذلك حسب قوانين الإعتقال، حينها لا أدري كم بقينا محتضنين لبعضنا، قبلتها من رأسها وجبينها ويديها..
بكت ونشجت، وبكيت أيضا، اختلطت دموعنا، وعندها شممت رائحة خبزها الساخن، وروائح الإكليل والزعتر، والزيتون..
وآعترتني الصور عدوا وحبوا :
صورتي وأنا طفل السبع سنوات، واجما أمام مشاهد الدم وقتلى المجزرة، ليلتها لم أنم، ظللت أبكي، محتضنا أمي..
و يوم حصولي على شهادة البكالوريوس في الإقتصاد و العلوم السياسية، الإنتفاضة، الحصار، المنظمة، الإغتيالات، الشهداء، الحواجز، العمليات الفدائية..
إجتاحتني كل تلك الصور، كشريط لا نهاية له، وأنا أحتضنها.

مساء ذلك اليوم، بدأت بكتابة أول رواية.
وكانت أول جملة :
(حاولوا دفننا، ولم يعلموا أننا بذور )*

* هي السعادة التي يحسها المرء في حزنه وتسمي أيضا الحزن النبيل

* * من أقوال تشي جيفارا.

هادية حساني.
تونس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى