حتى يشفَى القضاء..من بعض العلل التي تنخره..!

محمد المحسن | تونس
على هامش ايقاف قاضية تونسية “متورطة” في التهريب
قد لا يحيد القول عن جادة الصواب إذا قلت أنّ الفساد يُعتبر قوة مزعزعة للإستقرار في تونس،تُلقي بظلالها القاتمة على كل مستويات الاقتصاد والأمن والنظام السياسي.
في السابق، كان الرئيس الراحل زين العابدين بن علي يحتكر هو وأركان حكمه عملية الفساد، لكنه انتشر في أيامنا هذه كالنار في الهشيم، إذ بات المواطنون يتورّطون يومياً في ممارسات فاسدة وينتفعون منها.
أطلق المجتمع المدني العديد من المبادرات واتّخذت إجراءات قانونية كثيرة لمكافحة الفساد،إلا أن هذه الآفة تبدو اليوم منتشرةً أكثر مما كان عليه الحال في عهد بن علي.
وهنا أقول : لكي تتمكّن عملية الانتقال الديمقراطي من البقاء والاستمرار،لابدّ من أن تشنّ تونس حرباً على جبهتين في آن واحد لمجابهة نظام الكليبتوقراطية (حكم اللصوص) والفساد الصغير المتفشّي على نطاق واسع. وحتى تتكلّل هذه العملية بالنجاح،يتعيّن على الحكومة والمجتمع المدني أولاً الاتفاق على إطار مشترك لفهم جوهر الحرب على الفساد وسبل تطبيقها،ثمّ على المجتمع الدولي دعم هذا الإطار عبر التمويل والمساعدات المقنّنة.
واليوم..
عاد ملف الفساد في بلادنا ليخيّم على الأجواء الرسمية من جديد،بعد فتح القضاء تحقيقات في شبهات طالت مسؤولين في قطاعات عدة بينها سلك القضاء ذاته.
وعلى ذكر القضاء تمكنت في الأيام القليلة الماضية دورية تابعة لفرقة الحراسة و التفتيشات الديوانية بالمنستير على مستوى الطريق السريعة الرابطة بين الجم و صفاقس من ضبط سيارة خفيفة تحمل ترقيم تونسي تقودها قاضية تتطابق مواصفاتها مع المعلومات المتوفرة حول الشبكة،وبإخضاع السيارة للتفتيش تم العثور على كيس يحتوي مبالغ هامة من العملة الأجنبية تناهز قيمتها 1.5مليون دينار.وبحضور ممثل النيابة العمومية بالمنستير تم استنطاق المشتبه بها و التي صرحت أنها كانت تعتزم نقل هذه المبالغ المالية إلى إحدى مدن الجنوب لفائدة بعض الأطراف التي تنشط في مجال تهريب العملة.وتم تحرير محضر حجز في الغرض وتعهدت النيابة العمومية باستكمال الإجراءات القانونية مع المشتبه بها.
هذا،وقرر مجلس القضاء العدلي بجلسته المنعقدة بتاريخ يوم أمس الإربعاء 11 اوت 2021،رفع الحصانة عن القاضية التي تم ضبطها وبحوزتها عملة أجنبية وأخرى تونسية.
كما أكد المجلس في بلاغ له،أنه قرر كذلك إيقاف هذه القاضية عن العمل .
في ذات السياق،اطلق عدد كبير من التونسيين حملة تهكمية كبرى على ما سموه ” على وجه الفضل”.
هذه الجملة-التي تبعث في تقديري على الدهشة والإستغراب-جاءت على خلفية بيان النيابة العمومية المتعلق بالقاضية المتورطة في تهريب-كما أشرنا-حوالي 1.5 مليار من العملة الصعبة حيث بررت فعلتها بكونها على “وجه الفضل”وانها نقلتها لأحدهم دون ان تعلم بماهية ما تنقل.!!
وتأتي هذه الحادثة (تورّط القاضية في تهريب العملة ) لتلقي الضوء على حجم الخراب الذي لحق بالمرفق القضائي.هذا المرفق الذي كان مدجّنا بالكامل زمن الاستبداد،وكان يستعمَل مثل سائر أجهزة الدولة في تبرير القمع والقهر ومأسسته،وإسكات الأصوات الناقدة والمخالفة للنظام آنذاك.
وهنا أضيف: على الرغم من الإصلاحات الكثيرة التي تم إدخالها على القضاء بهدف دعم استقلاليته عن السلطة التنفيذية وعن الأحزاب السياسية،إلا أن -هذه الواقعة-التي أحدثت استنكارا واسعا في أوساط التونسيين،تؤكّد أن قطاع القضاء مازال مريضا،ليس فقط من خلال ايقاف -هذه القاضية-ورفع الحصانة عنها في انتظار استكمال التحقيقات،وإنما عبر كثير من الوقائع الأخرى،فقد تضمنت حكومة النهضة التي شكلها الحبيب الجملي وفشلت في نيل ثقة البرلمان،ستة قضاة كانوا مقترحين لمناصب وزارية مختلفة في حكومة شكلها ويقودها حزب سياسي.ومباشرة بعد سقوط هذه الحكومة وعدم نيلها ثقة البرلمان،عاد-السادة القضاة المستقلون-إلى مواقعهم.
الواضح أن اختراق القضاء من قبل أحزاب سياسية ومحاولة توظيفه لقهر الخصوم وكسرهم لم يكن اكتشاف بالنسبة للتونسيين (وهذا إشكال آخر يستدعي الحبرَ الغزير)
وحسب الأعراف والقوانين الجاري بها العمل في المجال القضائي،فإن اتهامات بهذه الخطورة تستدعي الإيقاف عن العمل بشكل تحفظي ورفع الحصانة عن”هذه القاضية الفاضلة”(وهذا ما تمّ فعلا)  إلى حين استكمال التحقيقات.
على سبيل الخاتمة:
يقصد باستقلالية القضاء عدم وجود أي تأثير مادي أو معنوي أو تدخل مباشر أو غير مباشر، وبأية وسيلة في عمل السلطة القضائية، بالشكل الذي يمكن أن يؤثر في عملها المرتبط بتحقيق العدالة، كما يعني أيضاً رفض القضاة أنفسهم لهذه التأثيرات والحرص على استقلاليتهم ونزاهتهم.
إن استقلالية القضاء هي تجسيد للعدالة وعماد دولة القانون،وهي أحد المرتكزات التي يتأسس عليها مبدأ الفصل بين السلطات،ولا تخفى أهميتها في ضمان الاستقرار داخل المجتمع وسير عمل المؤسسات بشكل سليم،وترسيخ ثقة المواطنين بها (المؤسسات).
على هذا الأساس فإن إصلاح القضاء وضمان استقلاليته ليس بالأمر الهين كما يعتقد البعض، وإنما هو عملية مركبة تفترض تجنيد عدد من الجهات وتوافر إرادة سياسية حقيقية،إضافة إلى شروط قانونية وتقنية مختلفة.
ختاما أقول لهذه القاضية :إن الفساد مرتبط اشتقاقيًا بفكرة التدمير،وهو ما يشجعه ضعف ما يسمى “الصالح الداخلي”الذي يوصف بأنه السبب الذي يبرر وجود أي مهنة بعينها.وبما أن القضاة موجودون لتحقيق الهدف الأساسي المتمثل في تحقيق العدالة ونشر قيم النزاهة والمسؤولية الضميرية، فإن الالتزام الأخلاقي القوي ينبغي أ ن يشكل أثراً وراثياً على القانون المهني..
وأرجو..أن تستسيغي – يا سيدتي القاضية – رسالتي جيدا.. إذ هي لا تستدعي منك استخارة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى