متلازمة الحماقة

الأستاذ الدكتور/ علاء الدين عبد الحميد أيوب

     يهتم الآباء، والمعلمون، والمدارس، والمجتمعات اهتماماً كبيراً بتعليم الأبناء ليصبحوا “أذكياء”. ولكن ماذا يعني الذكاء؟ هل حفظ آلاف من الكلمات أو الحصول على أعلى التقديرات يعد ضرباً من الذكاء؟ والأهم من ذلك، هل يمكن لشخص ما أن يتحلى بقدر من الذكاء، أي معرفة الحقائق التي يحتاج إلى معرفتها، وأن يتصف في الوقت نفسه بدرجة من الغباء أو الحماقة؟ نجحت المجتمعات عبر السنين في إشباع العالم بالأذكياء والمتفوقين والمتميزين لكن لم تستطع تقديم شهادات ضمان بعدم تصرف الكثير منهم بغباء أو حماقة.

     قد أدَّعي أننا جميعاً سمعنا بكلمة “متلازمة” من قبل، ويرجع أصلها إلى الكلمة اليونانية syndrome والتي تتكون من المقطع الأول “Syn” وتعني معاً، والمقطع الثاني “drome” وتعني يعمل أو يشتغل، أي: تحدث معاً. وهي كلمة يشيع استخدامها في عالم الطب والطب النفسي، وتشير إلى مجموعة العلامات المَرَضية (التي يلاحظها الطبيب) والأعراض (التي يصفها المريض)، والتي تحدث معاً، فوجود أحدها ينبه إلى وجود الآخر. كما شاع استعمالها مؤخراً خارج عالم الطب لوصف مجموعة من الظواهر الاجتماعية أو الثقافية التي تحدث مجتمعة. 

وتصف كلمة متلازمة خللاً عقلياً أو جسدياً أو عضوياً، وأحياناً يكون غير قابل للعلاج. كما تصف مجموعة من الأعراض التي تتم ملاحظة أنها تحدث معاً. والسبب المرضي لحدوثها غير معروف. وفقاً لما سبق، هل يمكننا القول إنه توجد متلازمة لدى بعض الأذكياء وهي التصرف بغباء؟ إذا نظرنا إلى التعريف المعجمي لصيغة الصفة في كلمة (نبيه أو ذكي)، نجد أنها “الشخص الّذي يتمثل بخصائص الفكر السريع الحاد واللامع” أو الذي يُظهر ذكاءً سريعاً، أو قدرة عقلية جاهزة”، ولذلك – طبقاً للمعجم- فأن يكون الشخص نبيهاً، مشابه جداً لأن يكون ذكياً.

     في كتابه بعنوان “لماذا يكون الأذكياء أحياناً أغبياء جداً” Why Smart People Can Be So Stupid يخبرنا روبرت ستيرنبيرج أن “الشخص الغبي بطيء في التعلم أو في الفهم، أو يفتقر إلى الذَّكاء”. ولذلك فلو أن الشخص النبيه هو الشخص الذكي، فإن الشخص الغبي يعني ذلك الذي يفتقر للذَّكاء. واستناداً إلى قانون التناقض، فإن الشخص لا يمكنه أن يكون ذكياً، وفي الوقت نفسه، غير ذكي. وعليه، فعبارة أن (الأذكياء أغبياء) تبدو بلا معنى منطقي لها.

     ولو اهتممنا بالحالات التي يتّخذ فيها الأشخاص الأذكياء قرارات غبية (أي القرارات التي لا تخدم أهدافهم) ويكون فيها الذَّكاء جزئياً هو الميل لاتخاذ قرارات تخدم أهداف الشخص، فعندئذٍ نقع في تناقضٍ مرةً ثانية- وهو أن الأفراد النبهاء لا يمكنهم أن يكون لهم اتجاهٌ أو ميلٌ (عام) للتصرف بحماقة. وما يجب أن نشدّد عليه هنا هو أننا نتحدث عن أنماطٍ منظومية للأفعال غير العقلانية، وليس موقفاً فكرياً أو عملاً طائشاً معزولاً.

     هناك أمثلة على قيام أشخاص أذكياء بأفعال حمقاء مثل بيل كلينتون الذي تخرج في كلية الحقوق بجامعة ييل Yale University وعرَّض فترة رئاسته للخطر من خلال معالجته السيئة لفضيحة مونيكا ليونسكي ونساء أخريات ممن تعرف عليهن في الماضي. كما ورطت إدارة جورج بوش الذي تخرج في جامعة (ييل) نفسها في حرب مع العراق دون أن تكون لديه رؤية لما بعد الحرب وكيفية إعادة بناء الدولة والحكم في هذا البلد الكبير ومتعدد الأعراق. ولا يقتصر هذا السلوك على السياسيين فحسب؛ فهناك أيضاً بعض رجال الأعمال الذين يعدون من أذكى الرجال في العالم وأحسنهم تعليماً لكنهم تسببوا في فضائح أدت إلى إفلاس شركات كبرى.

     كما لا يقتصر هذا السلوك على الأفراد؛ فقد أجرت صحيفة دير شبيغل الألمانية حواراً مع مايك فلين، المسؤول السابق في الاستخبارات الأمريكية، الذي أقر أن الولايات المتحدة بدأت تتصرف بحماقة وطريقة لا عقلانية منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر؛ حيث إن الأمريكيين قالوا: “من هؤلاء الذين هاجمونا؟ فلنذهب لقتلهم”، بدلا من أن يتساءلوا عن الأسباب التي جعلتهم مستهدفين، وهكذا سلكت السياسة الأمريكية طرقاً خاطئة منذ البداية.

إن أحد أشكال الحماقة تنشأ لدى الأفراد الذين يملكون اعتقاداً خاطئاً عن ذكائهم. أي أن ذكاءهم يتسم بالصلابة، وليس المرونة. هؤلاء الأفراد يعتقدون أن بذل مزيد من الجهد يدل على عدم الكفاءة لا على الذكاء. ولأنهم يعتقدون في ثبات ذكائهم، فقد يفشلون في الاستفادة من الفرص التي تمكنهم من رفع مستواهم الفكري.

     دائماً ما تتضمن الحماقة عدم تحقيق التوازن بين المصالح. وغالباً ما يعطي الفرد أهمية لمصالحه الشخصية على حساب المصالح الأخرى. ولكن ليس دائماً. فـ “شامبرلين” مثلاً أعتقد أنه يفعل صالحاً لبريطانيا العظمى، ولكنه تجاهل مصالح الدول الأخرى التي دمرها نظام هتلر، وبالتالي فقد تجاهل الصالح العام بالإضافة إلى، كما تبين فيما بعد، مصلحة بلاده على المدى الطويل.

     وبالمثل، أحياناً ما يضحي الناس بكل شيء من أجل شخص ما، وهذا يعد مظهراً للحماقة التي تنقلب عليهم وتضرهم كما حدث في الحرب التي نشبت بين اليونان وطروادة، هل كانت هيلين أميرة طروادة تستحق أن تنشب هذه الحرب من أجلها؟ العديد من الحروب في التاريخ نشبت نتيجة تعرض أشخاص للازدراء والإذلال، وبالتالي تم الاهتمام بتحقيق مصالح من تعرضوا للازدراء والإذلال على حساب مصالح الآلاف الذين وقعوا ضحايا من جراء عملية الانتقام لمن تعرضوا للإذلال. هناك من يعتقد أن حرب الشيشان نشبت بسبب الإذلال الذي عانى منه الجيش الروسي في حرب الشيشان الأولى. كما أن تعرض الألمان للإزلال في الحرب العالمية الأولى أدى إلى قيام الحرب العالمية الثانية.

     إن الحكمة لا تتضمن الاتزان بين الأنواع الثلاثة من المصالح فقط، ولكن أيضاً إلى الاتزان بين الأنواع الثلاثة من ردود الفعل التي تصدر استجابة لهذا الاتزان وهي: تكيف الفرد أو الآخرين مع البيئة الحالية، صياغة البيئة الحالية لجعلها أكثر اتساقاً مع الفرد والآخرين، وانتقاء بيئات جديدة.

     ولحدوث هذا التكيف، يحاول الفرد أن يجد طرقاً للانسجام مع البيئة الحالية التي تشكل السياق الذي يعيش فيه الفرد. وأحياناً يكون التكيف هو التصرف الأفضل تحت ظروف معينة ولكن غالباً ما يسعى الفرد إلى تحقيق توازن بين التكيف والتشكيل مدركاً أن التوافق مع البيئة قد لا يتطلب فقط تغيير الفرد لنفسه، بل وأيضاً تغيير هذه البيئة. وعندما يكتشف الفرد أنه من المستحيل تحقيق هذا التوافق، فقد يلجأ إلى انتقاء بيئة جديدة كلياً تاركاً، على سبيل المثال، وظيفة، مدينة، زواج، وهكذا.

     قد تتسم عملية الانتقاء أيضاً بالحمق. ومثال على ذلك، كبار السن الذين ينهون زواجهم من أجل الزواج بشخص أصغر سناً يطمع في أن يستغلهم مادياً. فالانتقاء يجرى على السياقات وليس الأفراد، فقد يرغب الفرد في العيش في مكان ما، ثم يذهب لهذا المكان فيجده مخالفاً لتوقعاته المثالية. فقد شكا لي بعض الأصدقاء الذين يعيشون بالخارج أن أسباب بقائهم بعيدا عن أوطانهم تختلف عن الأسباب التي سافروا من أجلها، وبعد أن عادوا إلى أوطانهم لم يجدوا ما سافروا من أجله!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى