أدب

سر العرّافة

قصة قصيرة

تامر محمد عزت | مصر

تعجب شيخ المسجد لما سمعه من عجائب وغرائب عن ابنتهما ، كان والد الفتاة قد حكى
له كل ما حدث في الشهور الأخيرة في حضور والدتها ..الشاهدة الوحيدة على الأحداث ، هناك سر غامض ومُبهم يحمل في رحمه العديد من الأسئلة والإستفسارات ولكن محصلة التشخيص صفر والنتائج غير مُبشرة ، تنفس الشيخ الصعداء وصمت وكان صمته جواب أنه لا يعرف كيف يتصرف في مثل هذه الحالة ولم يجد اجابة على سؤاله الذي كان يطرق على رأسه : كيف تحولت هذه البنت من فتاة عادية مثل اي بنت إلي عرّافة تتنبأ بالمستقبل ؟ ، قام من مجلسه وطلب منهما عرض البنت على طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعصبية ، خرج الشيخ من غرفة المضيفة ومرورا بالصالة كانت تجلس ابنتهما على مقعد في مقابل الغرفة ، فجأة خفق قلبه وارتعدت مفاصله، كانت الفتاة تجلس وهي تحدق النظر إليه بملامح متجمدة وكأنها تمثال بلا روح، تأملها في لحظات خاطفة ووقع في قلبه الحسرة عليها، فتاة ذات العشرين عاما بيضاء البشرة ذات ملامح طفولية وعينان عسليتان تتحول بين عشية وضحاها إلي عرّافة تتنبأ بالمستقبل ! ولكن كيف ؟ هل سُحرت ؟ هل لبسها الجن ؟ هل توقف مخه عن قراءة الأسئلة التي تدور داخل عقله عندما قالت له الفتاة بكل صرامة وحزم و قبل وصوله عند باب الخروج جملة ما( ….) قالتها وتركت الجميع يغرقون في ذهول عميق.

لم ينم الشيخ في تلك الليلة من فرط الرعب ، قفز من فوق سريره وقلبه مليء بالخوف ، هرع لدورة المياه وخلع ملابسه في اضطراب وأغرق ورأسه وجسده بماء دافئ لعل أعصابه ترتاح قليلاً ثم توضأ وارتدي ملابس جديدة وهمّ لصلاة قيام الليل،وقبل تكبيرة الإحرام تذكر حديث والد الفتاة وكيف بدأت القصة .

(البداية)
في صباح يوم ما كانت ابنته مريضة بالأنفلونزا ولم تكن لديها الرغبة في الذهاب إلي الجامعة ، أعطاها والدها علاج البرد والانفلونزا ومكث معها أخيها الأصغر الذي يدرس في الصف الرابع الابتدائي ثم خرج هو وزوجتة لمباشرة أعمالهم ، وتمر الساعات وعلموا فيما بعد بارتفاع درجة حرارتها وتطورت حالتها بحدوث نوبة قيء مفاجئة ثم أصبحت بحالة جيدة بعد تناولها خافض الحرارة ، والمشكلة الحقيقية ظهرت عند حلول الليل، والدتها كانت تطوف داخل غرفتها بين الحين والآخر والاطمئنان عليها وعلى الحرارة و فجأة شق سكون الليل صراخ والدتها ، فزع والدها وتسابقت ساقيه من الخوف وعندما وصل للغرفة ..قال : دخلت للفور ورأيت مشهدا كنت أراه في الأفلام فقط.

المشهد كأنه مصورا بكاميرا سينمائية عالية الجودة.

[كانت الفتاة قد انتابتها نوبة صرع، تهتز بعنف فوق سريرها ، جسدها كله في حالة تشنج ، الأم تسمرت في مكانها تبكي من هول الفزع والخوف على ابنتها الوحيدة ، الأب وقع على ركبتيه التي التصقت بالأرض بجانب السرير وفرد ذراعيه ممسكا بجسد ابنته وتزلزل قلبه مع نوبة الصرع التي حدثت لأول مرة ..لحظات وهدأت الفتاة ..لحظات والسكون هو سيد الموقف ..لحظات وتفتح البنت عينيها وهي في حالة اعياء..جسد وقد اصابه الوهَن ..وملامح ذبلت في ثوانٍ معدودة ..ووجه شاحب كأنها قادمة من الموت ..وبهدوء مرعب نظرت إليهما وتدلي لسانها من فمها، المشهد الذي جعل والديها تعودا لهما القوة ويرجع كلا منهما إلى الخلف من فرط الرعب..لأول مرة يروا لسان لونه أحمر بلون الفراولة ]

حملها والدها وهرب بها إلى المستشفى، وبعد إجراء الفحوصات اللازمة تبّين أنها مصابة بنشاط كهربائي زائد في المخ وقد حدث بفعل فاعل..بمعنى أدق ..حدث إثارة للمخ من خلال شيء ما غير معروف ..عادوا بها الي البيت وبدأوا في علاجها كيميائيا بتناول عقاقير مهدئه وبعدها أصبحت تتنبأ بأحداث مخيفة .

( انتبهي يا أمي..سيحدث حريق مفاجيء وأنتِ تُطهين اللحم في الزيت )

( أبي..عمي سيتصل بعد قليل على جوالك ..إنه في مأزق ..فقد حدث له حادث بسيارته وسوف يهاتفك من رقم غريب لأن رصيده قد نفذ )

( زوجة عمي ..ستكون في ذمة الله بعد ساعتين )

( خالي…خرج لصلاة العشاء ..وسوف يقع في غيبوبة سكر )

لم يكمل الشيخ صلاة القيام وهو يتذكر باقي حديث والد العرّافة الصغيرة :

حياتنا صارت كالجحيم ، كنّا قديما نتمني أن تتحدث معنا فهي بطبيعتها قليلة الكلام وقليلة الحديث مع الآخرين، وعندما تتنبأ بشيء ..تتصلب ملامحها كالتمثال وتتسع عيناها وتنظر بثبات في الفراغ الذي أمامها وكأنها تخرج من عالمِنا إلي عالَم آخر ..يتحدث إليها أناس لا نعرفهم فهي تُنصت باهتمام غريب ..ثم تخبرنا بنبوئتها ..وبعدها تعود لحالتها الطبيعية ..وكأنها روحين لشخصين متجسدين في شخص واحد..شخص طبيعي وآخر يُستعدي بقوى خفية .

خارت قوى الشيخ وتعبت أعصابه ولم يستطع إتمام صلاته..فالجملة التي قالتها له الفتاة كافية بطرد النوم من عينيه بقية حياته

(مشهد ناقص لم يعرفه أحد )

[ بعد أن رأي أخته في حالة قيء، هرول الصغير إلي جارتهم الممرضه ، ورن الجرس في تتابع مُفزع وفتحت الممرضة في غضب من هذه الطريقة ولكنه أسرع بالحديث وطلب منها أن تأتي معه لأن أخته تُفرغ ما بجوفها والتي بدورها هرعت بإحضار احدي الحقن المضادة للقيء من بيتها وسبقت أخيها في الدخول لشقتها وبدون تفكير ..أعطتها الحقنة ومكثت معها قليلا للاطمئنان عليها ولكن سرعان ما تبّدل الحال..ورأتها وهى تتشنج أمامها ..ارتبكت من جراء ما رأته وعلمت أنها أخطأت.. لأن تأثير هذا العقار يصب تأثيره مباشرة على الجهاز العصبي..انتظرتها حين هدأت تماما وأوصت الصغير أن لا تخبر والديه بأنها أتت إلي البيت حتى لا يخافا على أخته وأنها ستصبح بخير ]

(بعد ثلاثة أسابيع)

وقف الشيخ إماماً في المسجد يُصلي صلاة الجنازة بعد صلاة الظهر ، كانت الصلاة على زوجته ..زوجته ماتت فجأة ولكنه كان يعلم بوفاتها، فقد أخبرته الفتاة بذلك عندما كان بالبيت يومها..عندما وقف عند الباب ثم قالت :

( موعدنا بعد ثلاثة أسابيع..الممرضة ستكون في ذمة الله).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى