انتقائية الحروب والمواساة وشمولية الخراب والمعاناة

أجدور عبد اللطيف

صادفت مشهدا قبيل مباراة في كرة للقدم اليوم بين فريقين إنجليزيين يدخل خلاله لاعبو أحد الفريقين متلحفين برايات أوكرانيا، ولاعبو الفريق المنافس دخلوا بقميص يحمل علم اوكرانيا وعبارة “no war ” : لا للحرب. صاحب كل ذلك موسيقى حزينة في الخلفية وعزف للنشيد الوطني الأوكراني، إلى أن أجهش أحد اللاعبين الأوكرانيين في الملعب بالبكاء.

كانت هذه المشاهد كما رأيتها على الشاشة، أو كما أراد لي المخرج أن أراها مؤثرة جدا، لكن السؤال الآن: ما الإشارات التي يمكن أن نلتقطها من هذا الموقف؟

لنتأمل أولا في تكاثف الشعوب الأوروبية، يبدو أنها تعلمت درس التاريخ الأهم وهو أنّ الفرقة تودي إلى الخنوع والهوان، ولننظر أيضا – كما يحدثنا الفيسبوكيون هذه الأيام – إلى إنسانية هؤلاء أو لعظيم تأثرهم بالوقائع حتى لو بعدت عنهم، لكن ألا تكون هذه الإنسانية منحازة وانتقائية، فأنا لم أر أي ناد أو منتخب أوروبي في أية مباراة أو مسابقة يتضامن مع اليمن أو سوريا أو العراق أو بورما أو الإيغور أو الروهينغا أو مع الكاميرون أو السنغال أو مالي أو الكونغو خلال الحروب الأهلية الطاحنة التي تدور هناك كل حين والتي نعرف جميعا من يقف وراءها ولماذا.

إذن هل الأوربيون جنس بشري من حمض نووي نادر وغيرهم مجرد ذباب على البسيطة؟ ثم لا داعي لأنساق في هذا الصدد وراء كل ما تسببت به بريطانيا نفسها – وينسحب ذلك على فرنسا وأمريكا وغيرهما من دعاة السلام والإنسانية – من ويلات ومعاناة للمدنيين العزل عبر قرون في آسيا والهند والشرق الأوسط.

لعل روسيا في نهاية المطاف مع تاريخها الإستعماري النتن لا تطالب الآن سوى بمقعد على الطاولة، ولعلها تحاول فقط خلق بعض التوازن في هذا العالم الذي يخضع بشكل يبعث على الغثيان، لعجرفة أمريكا وحلفائها.

ومعلوم أن كل الحروب التي أثيرت في السنين الأخيرة كانت دوافعها اقتصادية بحتة، ويكفي أن نذكر أن أوكرانيا تستطيع لوحدها تأمين الغذاء ل 600 مليون نسمة سنويا، ويكفي أن تطالع محرك بحث لتقف على حجم الإحتياطيات الموجودة بخصوص مكونات طاقية ومعدنية مهمة في هذا البلد، ثم لتبحثوا عن أسعار النفط والقمح والغاز في أوروبا هذه الأيام بعد اندلاع الحرب.

إن كل ما قيل لا يسوغ الفرح بقيام نزاع مسلح آخر حتى لو كان بين “النصارى” أو “الكفار”، ذلك أن من يبتهج بحرب كائنا ما كانت أسبابها ورقعتها وحطبها، فهو مدخول في إنسانيته وعقله، ولا يمكن بحال أن يكون سويا لأن الذين يدفعون دمائهم نتيجة لها عزل مثلي ومثلك، كانوا يشاهدون نفس المباراة اللعينة من المنزل ويتصفحون الفيسبوك والانستغرام بعد يوم عمل روتيني مثلي ومثلك، واللحظة هم يقعون فريسة الخوف من انهيار السقف عليهم في أية لحظة أو هجوم بلطجية، بعضهم يقضي الليل في العراء وبعضهم لا يجد أكلا بعضهم فارق أما أو صديقا أو ابنا وجميعهم صارت أمنيته الوحيدة أن تعود الأيام التي ولت قبل أسبوع ليس إلا.

الحرب ليست نكتة إنها قذارة الجنس البشري، ولنتذكر قول الكاتب جون شتاينيك : الحرب عرض من أعراض فشل الجنس البشري كحيوان مفكر.
وهي في نهاية المطاف لعبة منحطة اخترعها حفنة من الحثالة حتى يتمكنوا من التنعم بخيرات أكثر ومن إشباع نزعات جنون عظمة غبية على حساب أرواح بشرية قدر لها أن تطل على الوجود في زمكان خاطئ.

عموما إن كل المعطيات المتوافرة والمتراكمة تجعل العالم كقطار فائق السرعة من الدرجة الممتازة يتمتع بخدمات فخمة مغرية، كما أنه يسير بأقصى سرعاته غير أنه من دون سائق أو أن سائقه مخبول، ومجاز المقال : كان الله في عون الأجيال القادمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى