ولا ظلَّ لي كي أكونَ

يوسف حطّيني | شاعر وأكاديمي فلسطيني

(1)

كلُّ هذا البياضِ يحاصِرُني..

لا أرى دمعةً في ظلامِ الأساطيرِ

كلُّ ما فيَّ هشٌّ خفيفْ

كغيمةِ أيامِنا الرّاحلهْ

هُنا.. في بياضِ اليقينْ

يتوهُ اشتعالُ حكاياتِ قهرٍ

تنوءُ بها الخيلُ والقافلَهْ

كأنْ لم يكنْ وجعي حالكاً

أثخنَتْهُ سُيوفُ الحلَكْ

كأنْ لم يَزُرْنِي غرابُ المسافةِ

يهمسُ في أذُني: هيتَ لَكْ

كأنّي على ضِفّةِ الحُلْمِ فجرٌ

 يُوَدِّعُ ظُلْمَتَهُ الآفلَهْ

هُنا في بياضِ اليقينْ

تطلُّ على شَهوةِ الدَّمِ

أنشودةُ الياسَمينْ

لا أرى عتمةَ القَيْدِ

بينَ نزيفَيْنِ

ـ ماذا جرى كي أكونَ عريسَ الحكايةِ؟

ـ ماذا تعشّيتَ؟

ـ أذكرُ زيتاً وخبزاً زعترْ

وكأساً من الشّايِ ما فيه سكّرْ

ـ لعلّكَ أسرفتَ في الحُلْمِ؟

ـ أسلمتُ حُلْمِي لسَيِّدَةِ اللّيلِ

تَرعى به عُشبةً من أنينْ

وحُزنَ السّنينْ

فمن أينَ جاءتْ فيوضُ الصّفاءِ؟؟

ومَنْ سَدّ باباً من النّزفِ والأرجوانِ

ليفتحَ باباً منَ النُّورِ للقادمِينْ؟

(2)

كأنّي هنا فجأةً قد وُلِدْتُ..

كأنّي على حينِ غِرّهْ

أضاءَ بيَ الأبيضُ المتوهّجُ

في ظُلمتي ألفَ مرّهْ

تحاورُ سيّدةُ الثّلجِ هَذَا المدى

كي يرشَّ نثارَ البياضَ

على عَتْمِ تلكَ الجَديلَهْ

كبلقيسَ تجلسُ

ترنو إلى سفَرٍ في البعيدِ

وتسندُ وجهاً

إلى يدها الغضّة المشتهاةِ

فتشرقُ في وجهِها أغنياتُ الطّفولهْ

ومِنْ شفتيها نداءاتُ وَجْدِ الخَميلَهْ

كأنّ شَذَا الياسمينِ

طغى فوقَ نزفِ القَميصِ

فصارَ رخامُ القصيدةِ أشهى

وفي كفّها الثلجُ أبهى

وفي البالِ أمنيةٌ:

أنْ تُدَاعِبَ ثلجَ الكهولهْ

وهذا السّواد الّذي غمرَتْهُ

بفتنةِ فضّتها أيقظَ الأرضَ

من حُلُمِ الياسمينِ

لتغدُوَ في خَاطرِ الشّعرِ

أحلى نساءِ القبيلهْ

(3)

وأَسْألُ مِن أينَ جئتِ؟

على أيِّ بابٍ طرقْتِ؟

وأيَّ طريقٍ سلكْتِ؟

وكلّ الدّروبِ تؤدّي إلى اللّيلِ

كيفَ تسلَّلْتِ بينَ الدّموعِ؟

وكيفَ تجاوزتِ حرّاسَ قافلةِ القهرِ

حتّى تضيئي شُموعي؟

 أضأتِ كطلّةِ وردٍ أضاءتْ

محيّاكِ ذاتَ مساءْ

أضأتِ كما خرجَ النُّورُ

من عتمةِ الكَسْتَناءْ

رأيتُ جِرارَ اشتهاءٍ من الخمرِ

تروي شفاهي

تشقُّ عصا طاعةِ الدّهرِ

دونَ انتباهِ

إلى وردِ عشقٍ يراقبُها في حياءْ

ويُهدي شَذَا عطرِهِ للشّوارع

ننهبُها في اشتهاءْ

فهلْ كانَ حقّاً على المتلهّفِ

في خَفَرِ الوَرْدِ والشّهْدِ

أن ينحني مثلَ قوسٍ

على وترٍ من ضياءْ

وهل حان فصلُ التذكّرِ

كي يَخرجَ القلبُ

مِن علقمِ التّيهِ سِرّاً

ويرسلَ دَقّاتِهِ نجمةً نجمةً

فوقَ دمعِ الرّجاءْ

(4)

أعدتِ إليّ اللّيالي عروساً من الزّنجِ

ليسَ لها مِنْ قلائدَ إلّا

ضياءً[1] تسلَّلَ مِنْ دفترِ الرّوحِ

نحوَ القصيدةِ مثلَ حروفِ الهجاءْ

وهذا القميصُ الّذي

يتجلّى على اللّيلِ أحمرَ

مثلَ قميصٍ تَجَلّى على البَحْرِ

أرجوحةً مِنْ بهاءْ

يعيدُ إلى العُمرِ دَهْراً

مِنَ الشَّغبِ الهَامشيِّ

ولكنّني قد أضَعْتُ السَّبيلَ إلَيكِ

كأنّ البصيرةَ تأخُذُني للهَبَاءْ

وقد كنتُ يوسفَ لكنَّني صِرْتُ

بعدَ انتظاركِ يعقوبَ

منتظراً ليلكاً أو قميصاً

يردُّ إلى ظمأ الرّوحِ معجزةَ الأنبياءْ

كأنّكِ قربيَ

فَلْيَقْرُصِ الواقعُ المُتَجَبِّرُ خَدّي،

كما تفعلُ السَّاحراتُ،

لأصحوَ مِنْ زمَنِ المُعْجِزَاتِ

إلى حُزْنِ ليلِ الشآمْ

وأُرْجِعَ لِلَّيلِ سيرتَهُ

سوفَ أعترفُ الآنَ:

لا ظلَّ لي كي أكونَ

تماماً كما أخبرَتنيَ

سيدةُ الياسمينِ غداةَ رأتنيَ

صبّارةً في ازدحامِ الخيامْ

ولا بأسَ بين الظّلامِ وبينَ الظَّلامْ

بنجمٍ يضيءُ دمي المتوهّجَ

حتّى أظلَّ عصيّاً على الموتِ

حتّى تظلَّ حروفيَ

تعويذةً في كواكبِ بُرْجِ الحَمَامْ

* * * * *

[1] الإشارة واضحة هنا إلى بيت المعرّي في وصف ليلة جميلة: ليلتي هذه عروسٌ من الزّنج عليها قلائدٌ من جُمانِ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى