عُروجاً نحو قبة أناشيد الرّائي..!

الأديبة نجاح إبراهيم | سوريا

     إنْ رغبتَ أن تمتطي زقورة الخِصب ، ويحملك الرّكب إلى قبّتها ، لتفتح شهيتك ذات نهار على البهاءات ، ترمي خلف أكمة الوجع ألفَ وجع، ومدى من مراثٍ وآهات، عليك أنْ تُصغي إلى الرّائي وهو في عليائه الداهشة ، شادياً مؤرّثاً في الماء ناراً وعطراً وأحبال ندى..تؤرجحك في صمتها الأناشيد وببوحها ، حزنها الشفيف وثورتها الزّرقاء ذات الغلالات البهية.

     أناشيد كما كأس مترعة بالعسل والقهوة وسوسن الصباحات، تفيضُ بالأمداء والأسماء ، تدوّخك انتشاءً، فتمشي في أفياء الأوتار ، تؤاخيك الفراشات والطيور والضّوء واللون، فتعتريكَ رغبة الطيران و العروج.

تعالَ../طرْ../نحو فضاءاتٍ في كفّك ، لها زرقة منتشلة من  قبّة السماء /ورائحة رُقمِ الطين فتعيش هاجس السرّ المكنون.

     في ديوانه ” أناشيد الرّائي” للشّاعر وليد جاسم الزبيدي يصرّ على أن يلبس فكرته أشكالاً مختلفة، فتارة يقدّمها على شكلِ قصيدة العمود ، وتارة ترتدي جبّة التفعيلة، وتارة أخرى تتسربلُ بقميص النثر الأرجواني، ثم تأتيك برقاً كومضة، وذلك لِما في داخل الشاعر من رغبةٍ للانعتاق من الجمود واليباس ، والتكرار المقيت . فمنحنا فرصة التذوّق  والتخيّل لحنجرة تنطلقُ من فجرِ أوتارها حتى أقصى ذبذباتها بعدّة وتيرات ، هو الذي عزم أن يصوغ الحرف الهاتفَ به والسّاكن في فمه لحناً وعزفاً.

     هو العاشق للتجدد والتنابع مهما علا جدار المحن والسواد ، ويبس رغيف الخبز الأسمر، وضعف القلب في مجاراة الرقص الجنوني الذي ما فتئ يدعو إليه: “سأدعوك للرّقص في أسطري/ معانٍ وصورة عشق بري..”

    تناول الشّاعر مواضيع هامة ، أولها موضوعة الوطن/ العراق ، فهو الرائي الذي قرأ أحواله، فحزن على مآله، وما أصابه ، بيد أنه موقن تماماً بانتصاره ، وسيكون على موعد مع هذا القادم الجميل:” سأنتظرُ العراقَ متى سيأتي؟/دهوراً عاشها قلقاً عراقُ/تهجّرَ من سوادٍ كان خيراً/ فألبسَهُ السوادَ دمٌ يراقُ..”

     ولعل ما هو مؤلمٌ ومؤثرٌ تصوير الشاعر لآثار العراق التي تغادره كسبايا إلى أوربة، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلُّ على حسّ المسؤولية التي تقعُ على عاتقه، وفرط الوعي:” ومن آثاره سيقتْ سبايا/ ومن أجوائهِ سرق المحاق..”

      لكن لابدّ وأن ينتصر العراق ويتخلص مما ألمّ به ليكون كما كان قبلة للحرية ، والشاعر إذ يصوّر فجراً ينبلجُ في فضاءات العراق فيجتمع الشّمل وليس إلاه- العراق- من يجمع الشمل،عراق العلم والأدب، فيه البدء وفيه عصارة الحقب.

    الشّاعر الزّبيدي، شاعرٌ يرفعُ راية الانتماء إلى نفسه الرّهيفة ، المكلومة ، الصّادقة ، الخضراء، وإلى مجتمعه المحزون منذ ألف ألف خيمة عزاء ، وإلى وطنه المطعون بالانتظار إلى عراق سيأتي. في كلّ قصيدة في الدّيوان، جزيرة من التساؤلات وحقولاً من الاستفهامات تحمل كلُّ عبارة ، بل إنّ كلَّ نصّ له نجده ينبوعاً في انتاج الأسئلة وبساطاً للتأمل.   

     قسّم الشّاعر ديوانه إلى خمسة أبواب، ما إن تلجَ الأوّل حتى تنبعث أمام ناظريك قصيدة العمود بجلال بهائها، ترمي بغلالاتها الذّهبية على عتبات العروج، تأتيك وقد شحذ الشاعر لتأتيك كلَّ ما أوتي من قدراتٍ فنيّة مدهشة ليجعلك تعيش أجواءَ إبداع مضيء ، فتقبض على مفرداتٍ لغوية جميلة ، إذ إنّه يُجيد الانتقاء مُصرّاً على اختيار اللفظة التي ترسم نفسها على البياض بجمالٍ وصدقٍ:

“جاءت تغنّيك بل تستنطقُ العتبا../واستوقفت طللاً ما عاد مكتئبا../نور الرّوابي وأصداءٌ بها حملتْ/ بعضَ ابتسام وذكرى واشتعال صِبا/حتى وقفت حنيناً جاد ملتهبا.”

    كما يتراءى لنا فإنّ الشاعر (الزبيدي) عاشق لقصيدته ، واهباً ماء الحركة في شرايينها والدوران نحو الأجمل بها ، فأراد أن يصوغها بأقمصة متعدّدة كما أسلفنا، ليقيم علاقة بينه وبين المتلقي لا تقف عند شكلٍ، لهذا فقد ضمّن الباب الثاني بقصيدة التفعيلة ليترفنا بحداثة حقيقية ومواكبة حثيثة للتجديد ، فحين ولجتُ هذا الباب تساءلتُ وما أكثر الأسئلة التي تتنابع في كلِّ قصيدة !

تُرى كيف يسكب فكرته، فتُشعِل دمَه بالندى؟ ومن يتجاوب مع الآخر فيومض بالبرق ويشعُّ بالمطر؟

    أراه يطاوعها فتتراقصُ على امتداد رمحه اللامع أنشودة ، بينما يزدهي برؤيته لها، هو الرّائي على كلّ حال، تتمادى بهرجة وجموحاً وصلاة وطاعة له فتنسكب كما لو كانت ماء سحرياً ، فتأخذ حجمَ وشكلَ الكأس لتكون بيد النديم غماماً مائجاً.

    وعلى الرغم من كلّ الأشكال المتعددة تبقى القصيدة ذات أبعادٍ دلالية وجمالية ، مترفة بقوافل من الفَراش، يطير فوق شغف الحروف المليئة بالدّفء فنلفى بالباب الثاني كوناً وقد شعّ  بأسئلة الشاعر لأنثاه التي لا تغادره روحاً :

 “كم حجم الكون وأنتِ معي؟/ لا يتعدّى حجمَ الخرم / بفم الإبرة /لا يتجاوز رعشة كفّي.. /نظرة عيني../فوق جبيني بحجم القطرة /كم يكويني بعدك عني؟/أُحسّ أني

أعيش بعيداً تدفعني /عنك مجرّات..”

    في قصيدة ” الزبيدي” نقبضُ على عناصر الحياة ، من مكان وزمان وبيئة ومشاعر فياضة ، وامتداد لازورديٍّ وأفق أخضر الخطوات، إضافة إلى ما يغدق عليها من لغة وصور ومعان ودلالات لتأتينا نحن الظامئين إلى الدّفء ، والاحتضان والعشب في عروقنا اليابسة ، فنرتجي أن نكون قريبين كما أغنية تلتصق بالحنجرة ، نرغب أن تَخْضرّ حناجرنا المتخشبة ونبدأ بالنشيد، ننشد وننشدُ لنؤكد إنسانيتنا ونكشف ما تنطوي عليه أرواحنا من حبّ وسلامٍ وحنانٍ ورقصٍ .لنتعلمَ أن نلحقَ بموكبِ شاعر طفحت به الحياة فراح يتلو أناشيدَ تتفتح على مكاشفةٍ بين الذات والموضوع بأسلوبٍ يشعُّ بياضاً وصدقاً ، مغمّساً برؤى لاحدّ لها ، يشدّنا إلى عالمه الشّعري المشبع بالحلم والرّغبة والاشتعال والأمل وسؤال أخضر:

“يصعقني الأخضر ..يربكني/أتخيّل كلّ ظنوني /وخيالي ينسابُ قصائد/فوق شجوني/تتمرّد تحنو وتعاند / يصعقني الأخضر يحصدني/غضباً مارد..”

   في الباب الثالث تباغتك الأيقونات، شخصيات تباهينا بها، تحمل من قداسة الفكر والروح والابداع الكثير .كل أيقونة بدت علامة أو رمزاً ، لا يمكن أن نغضَّ نبضنا عنها لمَ تركت من ضوء . حين لمستُ زيتَ تلك الأيقونات أحسستُ ببرق يلمع في دمي، وبمطر يهمي ، لقد رتل الشاعر بهاء الأيقونات حين أنشد مقطعاً يلخّص حياة وتجربة كلّ مبدع أمثال طه حسين، والرّوائي السوري حنا مينه، والمناضلة جميلة بوحيرد، ولم ينس الفنانين والمطربين والشعراء والشواعر، قال في أيقونة نازك الملائكة:” اعتصرتك الكوليرا /فكنتِ عاشقة بليلٍ/تغزلينَ الحرّ تفعيلة جديدة /حجّ لها أفواج …ملائكة..”

بينما أضاءت أيقونة الرّوائي الإسباني “ثربانتس” روايته الشهيرة إذ لخصها الشاعر بقصيدة صغيرة ذات تكثيف شديد:

“تبحثُ عن العدل/ في فروسية جديدة/تحاربُ طواحينَ هواء/بسيفك الخشبي/في غرائبيتك الدون كيخوتية/ترسمُ الخلاص.”

     الخلاص!!.. تلك الورقة الرّابحة أبداً ، المنفتحة على عوالم لامتناهية ، غير منحصرة البتة في مكان ، متفجّرة ، متخطية الأسوار، تمور بغرّتها ذات الألوان المتدفقة ، مفاخرة بنفسها حيث هي، قصيدة النثر التي يفتحُ الشاعرُ لها الباب الرّابع، فتمدّه بأناشيد عشقٍ في سهوب القلب حتى لتستعمرها هي الراغبة باحتلال كل جميل ونبيل:” بين غزالة قلب ينوسُ حجر/يفتح مزالج ممرّات نحو الرّوح/يسمو فيخفق، يرتل /بين دفتيه /ورقٌ أصفر /فيه رائحة تراب وعطرُ عنبر.”

     هكذا نتلفعُ في هذا الباب الرّوحَ الشّعرية الغالبة، فتبدو عاطفة الشاعر ورواحه في الخيال والمجاز وإيقاع القصيدة الرّاقصة حفنةً من ضوء في مرايا الفجر.

   في الباب الخامس والأخير من الدّيوان ينطلقُ بنا الشاعر إلى ما يلائم المتلقي في هذا العصر الذي جبّ القصيدة الطويلة تعاملاً مع مؤثرات اجتماعية وسياسية وأحداث متسارعة، تشكلُ المحيط العام، فارتأى الزّبيدي أن يُطعمَ قصائده بزخم التكثيف والايجاز والدلالة، فكانت الومضة التي اختصرت الكلمات في عبارة خفيفة، عاطرة البُنية والشكل، قادرة على الترميز والايحاء واستنطاق رموز الطبيعة وصورها، فجسد تلك اللحظة الانفعالية أنشودة لاهثة نحو العروج.

    انقسم الباب إلى قسمين عنونهما الرّائي ب جيفاريات، وتميمة ، فتفرّع كل قسم إلى أرقام لومضات عديدة لها سمة البرق وطعم الخلود:

” حينما أقولُ /الخلود/فأنا أعنيك أنتَ جيفارا.”

     ونروح مع الألق ، بصحبة حنجرة لا تعرف الخفوت، لنعلق عدّة تمائم في مشكاة القلب ، نخلع عن ثمار الرّوعة كلّ حجاب، متبعين نصيحة الرّائي بعد تجربة عمرها أعماراً:” املأ كأسك/ أخاف عليك من عطش/ قادم..”

     في كلّ الأبواب نجدُ القصائد وقد غزرت فيها اللغة الدافئة الثرة، والسرد المختزل ، وجمل الانشاء والخبر ، ومروج الضمائر وترفها كأفق بحر ، والتكرار الضاج بالحيوية ، والرقص الموحي كمطر، والدلالات التي تقارب سماوات،

    والأسلوب المتمثل في بنائه اللغوي، وذلك في اختياره للمفردات المنتقاة بشكل حرفيّ بما يتناسبُ وفكرة القصيدة، ومقدرته على صياغة التراكيب ، فالشاعر لايلجُ الغرائبية في اللفظ ولا يدخل مفازات التيه، إنما يؤثر قصر العبارة وقوتها وإيجازها. لهذا نجد أنفسنا بعد قراءة القصائد وقد عرجنا إلى عالم ساحر، واضحٍ، متورّد كتفاح شامي، متألق كازدهار بابلي.

 

                              

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى