بين الكلمة المنطوقة والكلمة المكتوبة (2-2)

رضا راشد | باحث في قسم البلاغة بالأزهر الشريف

ولا يقتصر فضل الكلمة المنطوقة على ما سبق في المقالة الثانية بل إن فضلها ليمتد ويتنامى حتى يشكل مقوما من مقومات هوية الأمة المحمدية.فمن خلالها وحدها كانت سنة تلقي الأمة للقرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تلقاه هو عن الله من خلال أمين الوحي جبريل عليه السلام قال تعالى:” وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم” أي لتؤتاه وتلقنه من قبل حكيم عليم ..والتلقي لا يكون إلا بالكلمة منطوقة (إلقاء) ومسموعة( تلقيا) .وبهذا التلقي وحده امتازت الأمم من بين سائر الأمم بأنها أمة ذات سند متصل في تلقيها كتاب ربها وما صح من حديث الصادق المصدوق نبيها صلى الله عليه وسلم .فما من آية يحفظها مسلم في مشارق الأرض ومغاربها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحتى برث الله الأرض ومن عليها(ضعيرا كان هذا المسلم أم كبيرا ،ذكرا أم أنثى ،عربيا أم أعجميا )..وإلا وله بهذه الآية سند متصل إلى رب العزة من خلال سنة التلقي القائم على الكلمة منطوقة مسموعة :سمع جبريل القرآن من رب العزة فأقرآه محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم سمع محمد القرآن من جبريل فأقرأه اصحابة وسمع الصحابة القرآن من رسول الله فأقرأوه أولادهم وأزواجهم ومن خلفهم من النابعين ..وهلم جرا .فالتلقي سماع عن السابق وإقراؤه للاحق ..أرأيتم كيف كانت الكلمة منطوقة مسموعة هي عماد التلقي للقرآن الذي صار مقوما من مقومات هوية الأمة حتى وصف رجالها بأنهم (أناجياهم في صدورهم).

وإذا كانت الكلمة المنطوقة سببا في تميز الأمة عامة بسنةالتلقى فقد كانت أيضا سببا في تميز طائفة من الأمة بما أعوز غيرها ..فإذا ما يممت وجهك شطر الصحابة الكرام رضي الله عنهم ألفيتهم (أي وجدتهم)امتازوا على سائر الأمة بأمرين :رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم والتلقي منه سماعا مباشرة بلا واسطة ،فهم الذي سمعوا كلمات الوحي من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم غضة طرية: تلاوة لآيات الذكر الحكيم إبلاغا لهم من الله تعالى وإنشاء للحديث النبوي..وكان لهذا التلقي أثره العظيم في أن صار الصحابة بإجماع الأمة أعظم الأمة إيمانا، وأقواها عزيمة، وأرسخها عقيدة، وأنفذها فهما ..حتى عُدّ فهمهم هو ميزانَ الحق ومعيارَ الصواب : فلا اعتداد بفهم يخالف فهمهم، ولا اعتبار بمذهب يخرج عن جملة مذهبهم، ولا وزن لإجماع يخالف إجماعهم ..فما خرج الحق عن جملة ما قالوه، ولا جاوز الصواب جميع ما انتحلوه ..وإنما كان هذا من أمور كثيرة من أهمها أن آذانهم هي التي انفردت بأن شنفت بسماع الوحي من لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وحتى تتمثل معي هذا الأثر جليا تخيل لو قيل لك إن هناك من يحتفظ بحديثٍ بصوت رسول الله صلى الله عليه وسلم(وهذا تخيل وافتراض).. كم من المسلمين وقتها كان سيبذل من الأموال ثمنا لهذا الشرف العظيم؛ شرف تلقي الحديث سماعا من رسول الله ..ولو كان ذلك فأي منافذ للفهم حينئذ ستسلك إلى عقولنا ما كان لها أن تكون لولا السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!

ثم كان لها من الأثر على أجيال الأمة بما يذكر فيشكر ويحفظ فلا ينكر، حيث التلقي مشافهة عن العلماء وهو الذي عده الشاطبي رحمه الله تعالى من أساليب التعلم.

فيا أيها المسلمون:

دونكم الكلمة المنطوقة ..عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم من التفريط فيها أو التخلى عنها فتَخسَروا وتُخْسِروا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى