آخر حافات الضوء

حميد العنبر الخويلدي | العراق

أنا وسميح والنعش

أذاعوا من على الشريط، أنَّ سميحا مات…قلتُ لم يمُتْ…سميحٌ زُفَّ بالخيل والليل والمزامير

***

لمحتُ من على الشريط سميحا مات..

تذكرتُ من قبل شهرين ساعةَ كنا تحتَ مظلةِ الغبش

نفترشُ الناعمَ مثل الملاءكة،، نسبّحُ نَسْبَحُ في الحب ،

في بحره العميق جدا،،مصغٍ لها،،حدَّ انَّ جوارحي انتبهتْ

كالصقر المستفز،، تحت الغطاء وتحت الذراع،،

قالت..لعل سميحاً ،، يمرُّموكبُهُ قريباً مضيءا،،

ولكنْ بلون الحقول،، تتبعُهُ الجداولُ والعصافيرُ،،

وانساقٌ من الشجر الطِّوال،،

ومثلَ أنين القطا المُسْربِ،، حيث الضحى،، وبريقُ ماء البحيرة،، يخرجن بناتُ فلسطين،، أولُ ما خرجنَ ،،

نثرنَ على الدرب اَسَاً وورداً وزعفرانْ….

رفعنَ البيارقَ البيضَ والخضرَ،، مابين بيرقٍ وبيرقٍ ..

صهيلٌ وسيفٌ،،حتى ضاقت الطرقاتُ وانفتح الأفقُ،،

طيّتينِ بعد طيّتينِ،،،، وكان بينهما منارةٌ وفرسٌ وتاجْ،،

انبهرتُ اعتراني من الحال الدهشُ،، الْتفتُّ يتبعُني الهواءُ

والطواحينُ والمارّةُ،، التفتُّ يتبعُني المغيبُ وحمراءُهُ،، وسبعٌ من الظبي الغزالِ ،،

درجنَ في العشِّ،، بناتي من دمي،، أو قل قصايدي،،

ومثلُهنَّ اثنتانِ،ْ، في كنفي عزيزتانِ،،

ومثلهنَ اثنتانِ اخترتُ الهوى والغوى منذ البدايات الى النهايات،، اشتركنا معاً،، شربنا معا كاس اللذاذاتِ،،

فرحنا، رسمنا في أشدِّ الذهول،، في أخصِّ الحلول،،

المسارَ….

ساَمْنا وراجعنا الحياة محثّينَ كمثل الرياح،، ومثل النهار

وجاء الشريط حثيثَ الشريطِ…

يدفع بالصورة والصوت

………….سميحٌ ماتَ…….سميحٌ ماتَ.

……………………….ماتَ سميحْ….

جاَرنا معاً،،، وصحنا معاً،،، بعيد العشاء،،، ما تأخّرَ منا سوى

هذا الفؤاد،،، فؤادي أنا،،، ماتَ واحتيى،،، مات واحتيى وفرَّ مني،،، مرتينِ ،، ثلاثَ مراتٍ،، في القفص اللدنيِّ…

مكان قلبي في لبِّهِ،، رفرف كالطير الحبيس تواً،،، جابهتْهُ

الضلوعُ،،، ولولا رحمة الله من شدة الحزن عليك سميح…

ها نحن جيناك نلاقي مثل آبائنا وأمهاتنا على طريقتهم

جينا نهرولُ،،، نهرولُ ويسبقنني وأهرولُ،

أنكبُّ مثلَ فحلِ الاياءلِ صكّتْهُ الجلاميدُ،،،

أنهكهُ المَشْيُ بالوعث والحرث،،، يرجفُنا السرابُ فوق وبين الهضاب،،، قطعنا الفيافي والبراري إليك،،، تلفحُنا الهجيرةُ

ريحُ السمومِ،، يرشقْنَني ببارد الماء،،

يتيقّظُ الذي فيَّ،،،..ارهجُ ارهجُ وتحمرُّ عينايَ …..

تفرُّ درويشتي،،، روحي العنيدةُ فيَّ…. أركضُ أطيرُ..

أطيرُ وأنا أركضُ،،،

……….الله.. الله …لا أعرف لا أعرف من شدة الحزن

………………….سميحٌ عليك…..

سقطتُ وقمتُ أهرولُ وحلواتي مع الركب مثل الحمام..

يهدلن،، أهفو إليك سميحُ،، ويدفعُني ويرفعُني الصياحُ

صياحُ القبيلةِ والقرابةِ

صياحُ العروبة ،، صياحُ الوطن…

فكيف وأنت الصديقُ الحميمُ ليَ في كتبه

وكيف مع الوقت نصحو ونغفو على شعرنا..

وأنت كما أنت بالمودة والصحبةِ…

اِنّا نلاقيكَ يرشفُنا الدمعُ والشمعُ  والفاتحة

وهذي الوجوهُ احتساها الصفارُ والغبارُ

غاديةً راءحةْ…..

هاهُنَّ لبسن السواد عليك،،، أقمنَ الحدادَ عليك…

ومنذ يومينِ قطعنَ الشرابَ والقوتَ عليك..

فهذي بثينة…قصّتْ جدايلَها الشُقرَ

ولُبْنى وليلى وفردوسُ،،، قصَصْنَ أمام أمِّ هاشمَ الساعدية …في حضنها كل الضفائر حزنا عليك

قوّالةُ الحي،، شيختُه الجليلةُ،، عماريةُ الدَّحِ  والنَّحِّ والردْحِ،،،

نَصَبْنا الماَتمَ والمضايفَ بيتَ العشيرة

سرادقَها الفخمَ،،، دُرْنا.. ودُرنا.. ودُرنا دورةً كاملةً

بالأفق على جبل الليل،، وفوق الشمس

مثل الصقور الباشقية،،مثل زهو الكراكي الصَّافاتِ

أسرابٌ من الطير الجوارح،،

القريشيون.. الزبيديون.. شمّرُ.. تميمُ.. دليمُ.. خويلدُ..

المراشدةُ… الجميعُ الجموعُ.. كلُّنا

العربُ العروبةُ يتقدمها الفخرُ والأمرُ

اِنّا ندور عليك،،، على سواك من العظام،، من شعبنا أهلنا

كبارِ القومِ عُلْيَتِهِ…

خرجنا وجيناك…خرجنا وكان الخروج من جنوب العراق

وصلنا وكان الوصول من جنوب العراق

إلى حيث حوران،، إلى حيث الخليل والجليل والقدس والناصرة،،، وكان التذكّرُ كالسناء شفيفاً،،

انكيدو مرَّهُ الموتُ من هنا،، انكيدو مرَّهُ المجد من هناك

اضربنَ بالدفوفِ بناتِ سومر َ،، اضربنَ بناتِ الناصريةِ،،

اضربنَ هذا أثر البطل،، هذي عروقُهُ ..ريحُهُ ..حزامُهُ ..وجذورُهُ

لاتبتاسْ..سميح..لاتبتاسْ

فلعلَّ الوقت قد حانَ،، ولعلَّ السلالَ امتلاءنَ وفاضَ،، ولطالما

ساَلوهُ،، ما أنت والشمسُ..؟ ما أنت والقمرُ…؟

قال حدَّ النخاعِ حدَّ المشاشِ في الطين والنهر..

قال إني قحْ..قحٌ ..قحْ…مِاَةٌ في المِاَةِ صافياً كماء العروس

من ماء العروبة ..إني صحْ..صحٌ.. صحْ..

وهذا حاصلي بيادرٌ من ذهب وماس ،، هويتي من فتح

هويتي من حماس،، من أخواتها من خبر غزةَ ومبتدءها..

من حروف التشبيهِ في الشجاعيةِ

من عكا ويافا من بيت حانونَ،، مع البحر الابيض والمتوسط

والخبب،،،

جاشتْ بالصراخ الساعديةُ عند سماعها الدَّفَّ والهتفَ

امُّ هاشمَ…

طواها الحالُ والماَلُ هزّتْ بيرقَها شيّعتْ بالكلام والحداء

سميحاً الشاعرَ والمناضلَ والشيخَ…

شيّعتِ الضحايا في العراق من اهلنافي فلسطين أهلنا

بدمشقَ الياسمينَ بدائرة الطباشير واللون..

ردَّدتْ ماقاله سميحٌ ذات يومٍ مع الضوء عبر النهار الأثير

أبكي عراقيَ أم أبكي فلسطيني….

في كل يوم تمطرُ السحبُ ..دماً في العراق

ذُبِحَ المسلمُ وغيرُهُ والمسيحُ…ذبحوا على باردٍ

ياسميحُ.. في كل يوم يمطر الافق،، ضحايا في فلسطين

ياصريخ المستصرخين،، مددْ ياربُّ مددْ..

ياويلي ياويل قصايدي…بناتي من دمي…

بناتَ الناصرية بنات سومرَ…

اُخْتُرِطي ياخدودُ..وابتُحي ياحناجرُ

ماتعِبتُ وذي خيزرانتي أولُ الركبِ

أول المهرولين اليه نلاقي سميحاً،، نلاقيه في الغبش

نلاقي النعش…

حملتْهُ النجومُ.. حملتهُ بناتُ نعش…

سميحُ.. ماتعبتُ وذي قدمايَ حافيتانِ عليك يمشيانِ

مثلَ مشينا للحسينِ،، في كل عام..إلى كربلاءَ..

نحن ،، في كل عام..إلى كربلاءَ..

نحن المهابيلُ المجانينُ فيه..إلى كربلاءَ فيه…

إلى حيث البطولةِ والبطلِ والمشرعةْ… إلى حيث فيه

إلى مراغةِ الدَّمِ تلك…فيها صورةٌ للبطل…هذا أثرُهُ..

نشمُّ رسمَهُ واسمَهُ ريحَهُ ودَمَهُ…

سميحُ…

ها نحن جيناك من الجنوب ،، إلى حيث الجنوب..

 من أصلهِ وجذره…ماننقطع نحن سُداةُ الحرير

ماننقطع نحن لُحْمَةُ الضوء..دقنا النولُ ..نولُ السموات

والرُّسُلِ…دافنا بالكرامات من الصغير الى الكبير…

ربط الخيط بالخيط…والمصير بالمصير..

سميحُ ما مات..سميحُ حيٌّ …مع الله حيٌّ..

ياعظيم البكا. ياعظيم السُّرى ،، نحن المهابيل فيه

في الله..سبحانَهُ ..ياهو ..نحن المجاذيبُ فيه…

ذوو الشطح واللمح..مشعّون يكرهنا الظلامُ والجهالةُ..

حضورٌ فيه…غيابٌ فيه..مجانينٌ فيه..

سهارى ندامى لا ننامُ.. الهيامُ الغرامُ …تتجافى جنوبُنا

انكرهنا…فلعلنا الثلّةُ القلّةُ النافرونَ…ذوو الشهادة والأريحية

ومايعلمون.. نحن مع الشمس.. مع القمر الفرد… ولعلَّ الوقت قد حان… ولعلَّ السلالَ امتلأنَ وفاض… ومايعلمون..

سقط حجرٌ أمامي..تشظّى ثلاثة وأصغرَ …أدمى أصبعي…

بردتُ رجعتُ الى ماكنتُ …داهمني النشيدُ والجيشانُ…

قوّالةُ الحيّ ..أم هاشمَ… ايقضتني بالصوت والفوت والموت

…الله..ذاك النعش..جاء النعش وصل سميح

مضيءاً  ..لُفَّ بالعلم العربي المجيد…ذاك بالمنحنى الأخير

فوق الذرى..والربى الخضر مع الطير والورد  والفراشات

ذاك مع الوعول والغزلان… شيخ الربى  سيّدُها الأجلُّ..

ذاك فوق آخر حافة للضوء الذي نحن فيه…

الذي شعَّ والتمعَ فصعدَ…ذاك لوّحَ لنا على طريقة الزعماء

لانسمع ماقال…كان بعيدا..قرّبَ تاهّبنا درنا قبل الوصول

دورةً مع الريح..

وصل مرّتْ تزفّهُ بناتُ فلسطين وفتيانُها

تزفّهُ الملويةُ في سُرَّ مَنْ راى.. والاهرامُ تزفه. من مصر

انطقي ياصحف الأهرام..يا جرايد عبد الناصر…

يا غوطة الشام.. يا تونسُ..يا المغرب العربي يا مكةَ النور

يا مليلة يا الحمراء ..انطقي

بهم جميعا…مِلْءَ مجرِ الكبش..كِثارٌ هُمْ..انطقي

كالنجوم انطقي بالفرات النبيل بالنيل بشريان العروبة

بالدين ..

سميحُ ماماتَ..سميحُ زُفَّ بالخيل والليل  والمزامير

سميحُ اشتهى الصحبَ  والدرب والقضيةَ..

سافر إلى رُحْبَة من الضباب المشعِّ في الغابة الجنوية

إلى الأبدية..سافر..

ولطالما افترقنا وغبنا.. وغاب رحمة من الله عليه

فلعلنا كهذي النجوم ما ان تغبْ.. تبزغِ الحين وتولد الحين

فيزهرُ المجدُ  وتُحْمَدُ العرب…

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى