قراءة انطباعية في نص (تيه الأسئلة) للشاعر العراقي كرار سالم

أحمد إسماعيل | سورية

أولا – النص: للشاعر كرار سالم بعنوان: تيهُ الأسئلة

أيها العالمُ المتخم بالوحشةِ و التثاؤب..
توقّف عن قذف سوائل حماقاتك
في وجهي.
كان يُمكن لهذا التأكسد..
على الشفاه..
أن يتفجّرَ قصائدَ و أغاني.
كان يُمكن لأوتار القلب
أن تعزف ألحانًا
غير الانكسار
كان يُمكن لهذا الشَعر الرمادي..
أن يبقى ليلا طويل الأمد..
في عيني حبيبتي..
للسّمر و افتعال الأحاديث و القُبل.
لو كان لي وطن..
ما نام حمَامُ الأماني
خائفا من فخاخ المنفى..
لكنك عصبتَ في رأسي ..
خطيئة التفّاحة؛
التي داعبها أبي..
و سقطنا نحن ابناؤه..
من ريش الأعالي،
إلى التِيه..
و طوفان الأسئلة.
نجرّ أوزارنا..
مثل حلزون مسن
نحملُ على ظهورنا..
رُكام السلف الطالح.
و انشغلنا بالبحث عن أبينا..
الذي ضاع..
و هو يعبّد الدروبَ بالخطايا.
و ظلّت التفّاحة تزداد تشبثا.
بينما سقطتْ منّا الحظوظُ و البراءة
مذ اتهمنا الغراب بالنّبش..
البوم بالأصداء..
و الحوت بابتلاع القمر.
آهٍ.. يا أبانا،
لولاك، لكنتُ الآن أتسكّع في الجنة
أُميّز أنواع النبيذ، و أعرف مقاسات النهود
أعرف في حضن أي حورية أنام
و أعرف من أين يؤكل الكرز
الغافي على الشفاه.
بدلا من هذا الدوران في العدم
و الرتابة التي يعود فيها القطيع عند الغروب
محملًا بالثغاء و التسابيح التي لا تنفع
أدورُ مثل سرب ذباب..
تطارده الأكفُّ و رذاذ المُبيدات..
ظل يلطم حظه و النوافذ.
دون أن يُشفى غليل الرب.

ثانيا – القراءة الانطباعية
الكوميديا السوداء أو مصطلح الأدب الساخر هو ذاك النوع من الأدب الذي يعكس أوجاع المواطن السياسية و الإجتماعية….
يقول فيكتور هوغو: القلم مرآة القلب و ترجمان العقل….
و يقول أيضا: كل صخرة هي حرف، و كل بحيرة عبارة، و كل مدينة وقفة، فوق كل مقطع وفوق كل صفحة لي هناك شيء من ظلال السحب أو زبد البحر…
فالشاعر هو الذي يحرر الأشياء من جمودها بقبلة مداده، و لأنه ابن الواقع يرى الأشياء بنظرة احترافية يحول بها المسكوت عنه إلى صدى ينبض في زمكانية الأشياء.
و هذا ما دأب عليه مبدعنا في نصه من العتبة العنوانية حتى قفلة النص.
فالعتبة العنوانية عميقة جدا تترك المتلقي في حالة فضول ونهم و فيض من التساؤلات ليبحر بعدها في النص تاركا التجذيف لروحه و بوصلة نبضه
العنوان ” تيه الأسئلة “
التيه يعني: الضلال و عدول عن الصواب، واضطراب ذهني يعوق عن بلوغ الغاية
و حين يكون التيه مرتبطا بالأسئلة نجد المضمون أعمق بكثير
فهنا يشير مبدعنا إلى مدى تدهور واقع الوطن و ذات المواطنين لدرجة أن السؤال بات فيه بلا صدى…لا أذن تسمعه…
وحين نضع أنفسنا في الصورة نسأل
ما مدى تردي حال الوطن؟
ما سبب هشاشة الوطن؟
ما هي نوع علاقة الحاكم مع الوطن والمواطنين؟
ما مقدار تفاعل المواطن مع هذا الواقع المؤسف؟
وهذه العتبة العنوانية مع كم التساؤلات ماهي إلا رافد للمتلقي يقبل من خلالها بشغفه كاملا على النص
ولان الشاعر أراد أن يرسم واقع الوطن المؤسف بريشته استخلص معجما دلاليا خاصا من خلال تراكيب و مجازات تعري الواقع
مثال
التاكسد…على الشفاه،
الإنكسار…
الشعر الرمادي..
ليل طويل الأمد..
زكام السلف الطالح..
ظلت التفاحة تزداد تشبثا…
و استخدام الفعل الناقص كان لأكثر من مرة كان له أثر كبير في رغبته من الخروج من هذا الألم الذي يتجرعه من مرارة الواقع…
واستخدام التناص في كثير من الجمل كان يعطي الامتداد التاريخي للالم و أسبابه مع موسيقى تصويرية عالية تغري المتأمل بأدق التفاصيل و ما وراء المجاز.
وشاعرنا استخدم هذا النوع من الأدب الساخر ليهز الضمير العربي من خلال تصوير مدى ترهله.

لاحظوا مطلع النص الذي بدأه ببيان ردة فعله كمواطن عربي على واقع حياته الموحشة التي لا يزيد فيها الرغبة إلا بالنوم
و أشار إليه مبدعنا بسخرية مدهشة وهي تخمته بالوحشة و التثاؤب
فهو يرفض كل الأفكار التي تؤدي للتحرر و يطلق عليها معنى الحماقة
و لأنه شاعرنا رافض لهذا الواقع الذي يقيده كما كل مواطن حر
يبدأ بتصوير الوجه المعاكس لحقيقة الوطن و المواطن من خلال الأمنيات
طبعا هذه النظرة هي نظرة غالبية سكان هذا الوطن البائس
لاحظوا كيف يسخر من المواطن و طريقة تفكيره وكيف يعالج مرض الوطن بالأمنيات
يشير إلى أن هذا الواقع كان يمكن أن يزيل هذا الصدأ و ينفجر عزيمة كالبركان و يزرع الفرح على الشفاه بأغان يعزفها إشراقة الوطن
و هذا الفرح من المستحيل إزالته
لاحظوا الانزياح في آخر المقطع بقول الشاعر
لو كان لي وطن
نعم فالوطن كالأنثى التي تغار عليها و تصونها من كل سوء
فإذا انعدمت الغيرة ذهب كل شيء مع الريح
في المقطع الثاني يهدف الشاعر إلى تعرية واقع الوطن من خلال تسليط الضوء على الاستبداد
وكيف أدى إلى طوفان من التيه
فالأمنيات تصطادها الأفخاخ في غربة الذات داخل الوطن و خارجه
و قصة الحب التي يروج لها أبي ( الحاكم) من خلال بيان مدى غلاوة الوطن عليه، و بيان أنه المخلص الوحيد للوطن كأنثى يملكها لذلك له الحق المتفرد بوضع يده عليها ولمسها كيفما شاء
و لأننا رضخنا لهذا الواقع أصبحنا كالحلزون المسن نكثر الشكوى و نرواح في المكان و دون حراك نرفع أكف الدعاء كوسيلة بائسة للخلاص كما تعلمناها ممن سبقنا من السلف الطالح الذي أرضعنا السكوت و الرضوخ للأمر الواقع

في المقطع الثالث يصور مبدعنا كيف أضعنا الطريق حين تركنا الحاكم المستبد مستمرا في ظلمه و خطاياه
و نحن نتقن التأمل و الصمت
وهنا نلاحظ تأكيده على التفاحة و كيف ازدادت تشبثا
هذا التناص تكرر مرتين في النص
وهو يؤكد من خلال التناص على مدى ضعفنا و عدم قدرتنا وضع حد لهذه الخطيئة
لاحظوا التناص الآخر ” مذ اتهمنا الغراب بالنبش.. “
فهنا يصور مبدعنا سخافاتنا و أننا غير قادرين على دفن الظلم بل فوق ذلك صورنا بمشهد ساخر
فنحن مبدعون حقا بالنبش عن القيل و القال و كثرة السؤال…
لذلك نحن كالبوم الذي كلما أطل صوته انبعث التشاؤم
و لأن واقعنا هش استقطب مبدعنا تناصا مدهشا آخر يزيد في السخرية من تصرفاتنا وانحدارنا
فمشهد الحوت الذي استخلصه مبدعنا من قصة يونس عليه السلام رسمه للدلالة على أننا نعمد إلى ابتلاع كل بصيص ضوء يدعو للتحرر
فهل نحن نستحق أن نكون بشر ولنا وطن يحتضننا؟

المقطع الخامس مدهش بكم السخرية من الحاكم و منا
لذلك استخلص مبدعنا معجما دلاليا عميقا يصور هشاشتنا كمواطنين من خلال عدة تراكيب
مثال
قطيع… سرب ذباب.. ظل
والسلطة و كيف تروض عقول العامة
مثال
الرتابة… الدوران في العدم…رذاذ المبيدات ( الاضطهاد)
يعيد مبدعنا تسليط الضوء على الحالكم المستبد و يشير إلى أنه لو لم يكن هو موجودا أو لو ابتعد عن اضهاده لكنا ننعم بالحياة في جنة اسمها الوطن
و لكن الرتابة تعشقت في سلوكنا
نحن اصبحنا كالقطيع الذي يتقن الرجوع إلى الغروب
و دون تطلعات إلى رؤية فجر وطن
ونحن كالذباب الذي لا يتقن سوى الطنين و النق وعدم الملل من الوسائل التي لا تجدي نفعا
متذرعين بالسلطة و زبانيتها التي لا توفر أي وسيلة لإخماد صوتنا
لنبقى كالظلال التي تلطم حظها و وجودها صباحا و مساء
هكذا دون أن يترك لنفسه فكرة المبادرة

نثرية عميقة ومبهرة بتصويرها و إيقاعها
ومجاز و تكثيف فاخر يستفز كل حواس المتلقي…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى