الذات والانفتاح على الآخر في إبداع سميرة بنصر

محمد المحسن | ناقد تونسي

أرْبكتَ يا همسَ النسيمِ سُكُونِي…/أيقظتَ دَهْرًا غفوتي وعُيونِي/ومَررْتَ كالطيف العجيبِ بِفكرتي/توحي إلى الافكارِ صبَّ شُجونِ..(جزء من قصيدة معنونة ب”همس السكون” للشاعرة التونسية سميرة بنصر..سنتولى مقاربتها لاحقا)

“نحنُ نجدّد في الشعر،لا لأنّنا قرّرنا أن نجدّد،نحنُ نجدّد لأنَّ الحياةَ بدأت تتجدّد فينا،أو قُل تجدّدنا” (الشاعر اللبناني الراحل يوسف الخال)

قد لا يحيد القول عن جادة الصواب، إذا قلت أنّ الشاعرة التونسية – سميرة بنصر- تمثّل على خريطة الشعر التونسي أيقونة مهمة لها خصوصيتها، وحالة خاصة من حالات الشأن الشعري الذي يجمع داخله ما بين المتخيل والسيرة ووقائع اجترار تاريخ الذات الاجتماعي والأيديولوجي في تجربة إنسانية وإبداعية مستمدة من واقعها الخاص الذي عاشته فعلا ومازالت تعايش فيه مراحل تحولات حادة في الزمن العربي المعاكس..

وتمثّل مرآة الذات التي انعكست عليها مسيرة حياتها الحافلة بؤرة كبيرة انعكست بدورها على إبداعها الشعري وشكّلت عالمها الإبداعي الخاص لسنوات طوال، كما تمثّل صورة الآخر في منجزها الإبداعي جانبا مهما استعادته – سميرة – في نسيج أعمالها الشعرية جميعها،وجسّدت من خلاله تجربة لها أبعاد متعددة كان لها تأثيرها الخاص على إبداعها الشعري على وجه التحديد،بل وعلى ملامح أخرى من منجز الإبداع العربي المعاصر. وذات – سميرة بنصر- في حد ذاتها وهي الباحثة عن نفسها، والمتفتحة على الآخر وعلى العالم من حولها، تريد أن تدرك المعنى وتمتلكه.

فكل علاقة للذات بذاتها هي علاقة بالعالم والآخر،كما أن كل علاقة بالآخر هي علاقة بالذات.وهذا (الازدواج) تعبير عن وحدة صميمية مفقودة بين (الأنا) و(الآخر) في عالم تشترك فيه أكثر الدلالات الشعرية لدى – سميرة – برموزمتماثلة، وهو شعور يتجاوزهذه الدلالات،والإيحاءات باستمرار نحو تأكيد خصوصية الوضع البشرى، حيث يكون الإنسان غائبا عن ذاته.تعيش الشاعرة التونسية-سميرة بنصر-القصيدة كما يجب أن تعاش، و”تسرد” وّتروي” ،وكانت ذاتها في خضم هذا- الطوفان الإبداعي – مرآة للواقع الذي اختارته هي والذي كانت سطوة الآخر بصورها المختلفة دائما ما تشكّل تجاهها عقبة كؤود لواقع ما كانت تنشده.

فنراها تعيش شتات الذات وترتطم بالآخر في شتى صوره،ويحاول هذا الآخر في ذات الآن بشتى الطرق أن يسقطها ويكسّر حدة تمردها،ومن ثم تصادمت ذاتها مع سطوة القمع عند هذا الآخر المتمثل أولا في السلطة المناوئة لفكرها،كما تمثل أيضا في صورة المرأة كما جسدت خطوطها برؤيتها وفلسفتها الخاصة، وقد انعكس ذلك كله على منجزها الشعري الذى أبدعته عبر مسيرة حياتية ولئن كانت قصيرة ضمنيا لكنها لا تزال مفعمة بعطر الإبداع. وإذن؟ العالم الشعري عند “سميرة” إذا،هو عالم قائم بذاته،يكاد أن يكون معادلاً للمجتمع الخارجي ترتبط عناصره ارتباطاً سببياً ويستمد كل عنصر قيمته النسبية من علاقته بالأجزاء الأخرى، وتلتقي ممراته الجانبية وأزقته الخلفية بشارعه الرئيسي،فكل وقائعه منتظمة في إطار ثابت يحدد لكل واقعة وزنها الخاص، وقد تتساوى فيه إحدى النزوات الشخصية، فكل الأشياء المحيطة بنا قد اندمجت في شبكة من الدلالات الفكرية والإنفعالات الجاهزة؛ويتحدد شكل القصيدة عند-سميرة- بالفعل المتبادل بين الشخصية ووضعها،فقصائدها تتميز من زاوية رئيسية بالطابع الانتقالي،بالصراع بين عدة متناقضات، بذلك التيار المتدفق المتغير دائماً في مواجهة التسلسل الطبقي المتحجر.

إن ملحمة الحياة الخاصة عند – سميرة- تتنفس بالدلالة العامة. وليست – الحبكة الشعرية – عند –سميرة – إلا حركة المقدمات لتجنب نتائج وفقاً لمقاييس مضمرة، فإن ما يحدث في النهاية هو التعقيب الأخلاقي والفكري على سلوك الشخصيات، وهي لا تختلف في ذلك عن سائر كتاب الرواية البلزاكية،فالخاتمة يحددها السياق الموضوعي العام لكل لحظات الفعل المتعاقبة،تدفع أخلاقاً كريمة وتلتزم بقواعد اللعبة وتأخذ نجاحاً أو العكس..

وهنا يتجانس الشعر بالرواية في علاقة حميمية من الصعب فصل عراها.ومن هنا أبضا،فإن الحبكة الشعرية-كما أسلفت- لدى -سميرة- تنسج في صبر شبكة من “العلاقات”اللاواقعية خلف الإسهاب في سرد التفصيلات الواقعية،فالعلاقات السببية المحركة للواقع والمحددة للشخصيات تحتوي على تصورات مثالية عن الإنسان ومكانه في العالم، وهي تطبع بطابعها ما يسود تلك المرحلة من بحث عن قيم حقيقية في عالم يبدو زائفاً،بتحقيق الوفاق السعيد بين الإنسانية والأرض والسماء.على سبيل الخاتمة: ليس مشكلة في أن تستحيل شاعرا، فالمفردات والألفاظ مطروحة على- رصيف – اللغة، لكن الأصعب أن تكون ذاك الشاعر القارئ، وهذا الدور المزدوج يجعل الشاعر كرها ملتزما أمام قارئيه في أن يقدّم لهم قدرا معرفيا ومعلوماتيا مهما يشارف اكتمال ثقافة الآخر الذي يجد ملاذه المعرفي عند شاعره،هذا الدور قامت به – سميرة بنصر- عبر مشروعها الشعري الطويل، ومن خلال قصائدها المدهشة (وهذا الرأي يخصني) وكبار الكتاب والشعراء من أمثال توفيق الحكيم ويوسف إدريس وأدونيس ويوسف الخال ومحمد الماغوط مرورا بالاستثنائي محمود درويش وجمال الغيطاني وواسيني الأعرج وأحلام مستغانمي وغيرهم..

كانوا يمررون قدرا معرفيا مذهلا عبر سياقاتهم النصية الإبداعية أو السردية مستهدفين خلق حالة من الوعي المعلوماتي لدى القارئ الذي اختلف دوره عن السابق بعد أن استحال شريكا فاعلا في النص،غير هذه الشراكة الباهتة التي أشار إليها رولان بارت بإعلان موت المؤلف/الشاعر.فالمؤلف أو الشاعر، لم يعد ميتا كما استحال في سبعينيات القرن الماضي،ولم يعد إلى أدراجه القديمة منعزلا عن نصه،بل هو الصوت الآخر الذي يدفع القارئ إلى البحث عن مزيد من التفاصيل واقتناص الإحداثيات السردية أو الشعرية بمعاونة الكاتب نفسه.

و- سميرة بنصر- الغارقة في تفاصيل الوطن وتراثه الأصيل، استطاعت أن توفّر هذا الوعي المعلوماتي لدى قارئها،الأمر الذي يدفعنا بأن نجعلها في زمرة الشاعرات الحجاجيات، أي اللاتي يمتزن بإقامة الحجة عن طريق تدعيم الطرح الفكري بطروحات فكرية وفلسفية ذات شراكة متماثلة بعض الشيء..يبدو هذا الطرح المعلوماتي في تفاصيل المشهد الشعري للشاعرة والذي نجح الشعر بقوالبه أن يفرض سطوته وقوته القمعية في إحداث التأويل والإمتاع،ومن قبلهما الدهشة لدى القارئ من خلال الصورة والتصوير الفني لأحداث تبدو أحيانا رومنسية محضة،وفيها تدعم سميرة بنصر طرحها الفكري بأفكار ومساجلات فكرية تؤدلج الدور السياسي للمثقف، وأنها ليس بالقطعية تنظيريا أو مكتفية بالمتابعة بدون المشاركة في صنع القرار السياسي، وأنها بمثابة أيقونة شرعية للحراك المجتمعي.ختاما أقول أنّ الشاعرة التونسية – سميرة بنصر- تؤسس-ببراعة واقتدا-لنص شعري مختلف، إذ تراها- أحيانا- أشبه بالمسرحيين وهم يدشنون أسسا لفنهم،فهي كذلك في معظم قصائدها، تعتلي مسرحا شعريا يقص التاريخ بعدسات غير متمايزة رغم أنها لا تدخل في قالب المسرح وكنهه،فهي لم تتبع القوالب الفنية الجاهزة لكتابة القصيدة،بل عمدت منذ البداية إلى تأريخ السرد والحكي عبر لغة شعرية عذبة تداعب الذائقة الفنية للمتلقي.

وأعتقد أن سميرة بنصر منذ خطها لسطور قصائدها الأولى،وضعت رهانات جديدة للنص الشعري،وهي حضور المتلقي بقوة رغم انفصاله- أحيانا- زمنيا عن سؤال الوجع، وأنين الألم.سُئل ذات مرة الشاعر محمود درويش، فأجاب بكل تلقائية، “نحن،حتى الآن،نحاول بكل الأشكال الشعرية الجديدة أن نقول سطراً واحداً للمتنبي. كيف؟ كل تجاربي الشعرية من أربع سنوات حتى اليوم (1982-1986)، كتبت حوالي المائة قصيدة،ثم انتبهت إلى أن المتنبي قال: (على قلق كأن الريح تحتي)”..!!؟

والشاعر، هو من يبني مجدا، ويترك خيرا، ويستظل تحت ظل كل الشعراء من جلجاميش حتى آخر يوم من سنوات عمره، فالموت حقيقة تُعلن نهاية سجال الحياة، والحب حُلم وغاية يلهث وراءه الإنسان،لأنّه بُرهان ودليل على البقاء والخلود، سواء علم بذالك أم لم يعلم، ومهما تطلب منه ذالك من تعب ومن صراع، يؤكد دوريش ذلك بقوله “سنكتب من أجل ألّا نموت، سنكتب من أجل أحلامنا” ..وسظل أيضا-سميرة بنصر-تكتب بحبر الروح ودم القصيدة..من أجل مستقبل مشرق تصان فيه كرامة الإنسان..ولنا عودة إلى مشهدها الشعري عبر مقاربات مستفيضة..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى