مقال

جمعة الرفاعي أجملُنا لأنّه شاعر!

فراس حج محمد| فلسطين
تعرّفت على الشاعر جمعة الرفاعي ربّما في أواخر عام 2014 أو بدايات عام 2015، لا أدري على وجه الدقة متى حدث هذا، لكنه حدث على أية حال. عرفته ربّما وأنا أفكر بالانتساب إلى الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين، وأهمّ بتعبئة استمارة الانتساب، كان لديّ في ذلك الوقت ربما إصداران أو ثلاثة. زرت مقر الاتحاد وتحدثت مع الرفاعي؛ إذ يشغل الرفاعي منصب المدير التنفيذي فيه، وصرت بعد مدة قصيرة عضوا في هذا الاتحاد.
في رام الله، حيث كان الرفاعي يدير مقهى شباك، رشحني لأقدم سرديته “خارج الموعد” التي كتبها في الاعتقال. شاب يكتب أدبا اعتقاليا بطريقة مختلفة، لا يوثّق ولا يسجّل، كنت قرأت كثيرا من الأعمال الأدبية حول الاعتقال تفعل مثل هذا. راقني أسلوبه الذاتي في الكتابة، فكتبت مقالا نشرته صحيفة العرب في لندن، وقدّمته في حفل توقيع السردية برعاية دار الجندي برفقة الشاعر عمر زيادة. كان حضوري الأول في الوسط الثقافي في رام الله. كان الوقت بعد المغرب، لا بد لي من المبيت فاستضافني الشاعر في بيته.
توالت اللقاءات بيننا، وصار من أصفيائي، أبادله الحب والود والكتب والآراء، لم يتخلف يوما عن أي نشاط لي في مدينة رام الله إلا إذا كان مشغولا جدا أو كان في سفر. يتصل فيعتذر، دماثة خلق رائعة فيه، وعلى الرغم من كثرة مشاغل الحياة، إلا أنني أفزع إليه في الملمات ويفزع إليّ، وأحبه وهو يخاطبني بلازمته المحببة “أخوي يَ فراس” أو “أخوي أبو عمر” وأحيانا يجعل بدلا من عُمر عَمْراً. لكن لا يهمّ فسرعان ما يصحح الاسم، وأراه من خلف الحجب مبتسما لهذا الخلط الذي لا يقدم ولا يؤخر.
في أول حفل توقيع لي في مدينة رام الله احتضنه متحف محمود درويش لديوان “وأنت وحدك أغنية”، حضره الكثير من الأدباء لم أكن صديقا لأكثرهم. أول معرفتي عن قرب بالأديب سامح خضر، أذكره بالخير لأنه كان جميلا وهادئا، وودودا، يحترم الجميع، استضافني في مكتبه وتحدثنا، في ذلك اللقاء تعرفت إلى الشاعر فارس سباعنة، هؤلاء الثلاثة كانوا أصدقاء، وربما ما زالوا؛ الرفاعي وسامح وسباعنة. أو على الأقل زملاء فكرة وقلم؛ يتقاسمون الساحة ويتعاطون الإبداع.
الشاعر جمعة الرفاعي أعجب باللقاء وبالشعر، وما زلت أذكر جملة قالها عقب اللقاء عندما سألته عن رأيه: يا رجل لقد حسّنت ذائقتنا، كانت شهادة من شاعر في حق شاعر، وقليلا ما يمدح شاعر شاعرا آخر، لم يكن بعد صديقا حميما أو مقربا جدا، لكنه صديق يمكن أن تطمئن له وترتاح لما سيقوله.
كثير من الشعراء حضروا اللقاء واكتفوا بالصمت، بمن فيهم المرأة التي كتبتُ الديوان لأجلها ووقعته في رام الله كرمى عيونها، لكنها أبت إلا أن تصمت أيضاً، ربما لم أعجبهم وأعجبها، وهذا وإن كان حقهم فليس من حقها! لكنني في نهاية المطاف اعتبرت اللقاء ناجحا جدا.
أتردد كثيرا على مقهى شباك، لأرى الرفاعي، وليس من أجل اللقاءات العاطفية، مقهى شباك كان ذا طابع ثقافي، خفوت الإضاءة وما حولك من رسومات على الجدران وصور الأدباء، وما ظهر تحت زجاج الطاولات من مقتبسات ثقافية يشعرك أن المقهى لا يصلح للقاءات العاطفية المحضة. تدور بيننا كثير من الحوارات، والأفكار، نتفق أكثر مما نختلف، الرفاعي مثقف، وقارئ نهم، ولديه اطلاع على الثقافة الإسلامية والوطنية والاشتراكية ورموز الثقافة والشعر العالمي. كل جلسة معه كانت محفزة لي لصنع مائدة نقاش ثرية، تعرفت من خلال جمعة على أشياء كثيرة، لم يكن غريبا عن الساحة بكل تفاصيلها التي تعج بالمتناقضات، يعرف الأحزاب العلمانية كما يعرف الأحزاب الإسلامية والشيوعية واليسارية، ويعرف تعقيدات المشهد الثقافي وأمراضه وتشابكاته.
جمعنا الشعر مرة واحدة على موائده، في مهرجان الشعر الثاني لمنتدى المنارة للثقافة والإبداع، عقدناه في نابلس، على مدرجات متنزه جمال عبد الناصر، شارك فيه نخبة من شعراء فلسطين وشاعراتها. الرفاعي كان مشاركا في هذا المهرجان.
حاولت أن أطبع كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية” عن طريق اتحاد الكتاب، لكن أحد أعضاء لجنة النشر رفض الموافقة على الطباعة بدعوى أنه كتاب تاريخ! كانت نكتة ساذجة قابلناها بضحكة مرغمَين عليها. يزعجني القرار كما يزعج جمعة الذي رغب بقوة في أن يطبع الاتحاد الكتاب، فقد وصف الكتاب بأنه مهم. فشلنا في الطباعة عزز فيّ الإصرار على طباعته لأنني أعرف ما كتبت، وأهميته، فتمت طباعته في مصر، في دار روافد، صحيح أنني دفعت مبلغا كبيرا للطباعة لكن هذه الطباعة أفادتني كثيرا؛ فوصل الكتاب إلى كل أنحاء العالم تقريباً. نتباحث في هذه المسألة أنا والرفاعي، ويتأسف لأن الكتاب لم يطبع في فلسطين. لقد قرأ الرفاعي الكتاب بكل تأكيد بنسخته غير المطبوعة.
كما تناقشنا معاً بعد ذلك بشأن كتابي المخصص لدراسة أدب الحركة الأسيرة الفلسطينية “تصدع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة”، لكننا لم نطرح فكرة طباعته عن طريق الاتحاد أو حتى عن طريق وزارة الثقافة؛ لأن الكتاب “ملغوم”، يحمل أفكاراً تتناقض وما يؤمن به “المتنفذون” في الاتحاد وفي الوزارة، ويشتمل على أفكار معارضة للسلطة الفلسطينية، أضف إلى أن العلاقة على غير ما يرام مع الوزارة التي انتقدتُ وزيرها (السابق) في كثير من المقالات في ذلك الحين، فلا يصحّ عرفاً أن أطلب طباعة كتاب من جهة انتقدت كبيرها. هذا ممكن جدا لو كان المتحكم بالأمر شخص مهني لا يشخصن الأمور أو أن الهدف لدى هؤلاء دعم الأدب والفكر وتنشيط الحياة الثقافية، أو أن ما يتحكم بالأمر النظام، القائم على احترام الرأي، وأن المؤسسة غير معنية إلا بما هو جيد، فغياب المؤسساتية والشخص القادر على تجاوز الأمور الخاصة سببان رئيسيان في تدهور الوضع العام في فلسطين وفي كل مؤسسات السلطة، بما فيها المؤسسات الراعية للشأن الثقافي.
على الرغم من كل ذلك، ظلت علاقتي بالرفاعي كما ينبغي لها أن تكون، شفافة، وتسودها مشاعر الود والاحترام، وإمكانية النقاش في كل الموضوعات، حتى بعد أن أخذت أكتب بعد ذلك بسنوات منتقدا الاتحاد لمواقف كثيرة لم تعجبني منذ فترة الأمين العام السابق، وخاصة مواقف الاتحاد السياسية، أو بعض الإجراءات الإدارية، أو السيطرة الأمنية على الاتحاد، وظل جمعة يزودني بإصدارات الاتحاد الجديدة التي أحرص على اقتنائها وقراءتها.
ويأتي ترشحي للهيأة الإدارية في انتخابات الاتحاد، فيدعمني الرفاعي ويظهر رضاه عن هذه الخطوة، باعتباره حقا مشروعاً لي. خسرت الجولة، وبقينا أصدقاء، وتحسرنا للمرة الثانية على ضياع هذه الفرصة.
كتبت- إضافة للسردية- في جميع دواوين الشاعر؛ “سجنيوس”، و”الجهة الناقصة”، و”إذ رأى ناراً”. وشرّفني الرفاعي أن أطلع على مسوّدة الديوان الثالث أيضاً، وتناقشنا في العنوان، وبين أخذ ورد، استقر على هذه الجملة المقتبسة من القرآن الكريم من الآية العاشرة من سورة طه. كتبت عن هذا الشعر أربع مقالات؛ اثنتان نشرتا والأخريان لم ينشرا بعد، إضافة إلى هذه الكتابة.
جمعة الرفاعي في شعره وفي ثقافته وسماته الشخصية قريب جدا لي ولطباعي، فكلانا تربى على الفكر الإسلامي، قبل أن نخرج إلى الرحابة الفكرية، المقيّدة- قبلاً- بالفكر الحزبي لديّ، على الرغم من أن الرحابة الفكرية لم تفقدني أو تفقد الرفاعي انتماءنا للفكرة الإسلامية الشاملة، لذلك تجد اللغة الشعرية عند الرفاعي فيها ميّزتان بأثر التغلغل العميق للإسلام وأفكاره في نفسه. الأولى الوضوح وعدم لجوئه إلى الإغراق في الإبهام مع المحافظة على مستوى عالٍ من البلاغة والصياغة والسبك الجيد، تكاد لا تجد له خطأ تعبيريا واحدا، أو خطأ إملائيا أو نحوياً، ولأجل هذا الأثر الخلُقي في شخصية جمعة لم يكتب الغزل الحسيّ على طريقة من كتب شعرا أيروتيكيا مباشراً بألفاظه الصريحة أو شبه الصريحة، كما فعلت أنا شعرا ونثرا، إنه كان أكثر لباقة مني في هذا الجانب، كما أن شعره “نظيف” من ألوان السكر والعربدة والإلحاد. هو مؤمن بالعمق، في الشعر وفي الأحاديث الثقافية العامة أو الخاصة، فطبيعة شخصيته تفرض هذا النوع من القول الشعري، ولأنه هكذا فلا شك في أنه يفرض على ناقده أن يتعرف على هذه المكونات النفسية للشاعر وثقافته.
وأما الميزة الثانية الإبداعية في شعر الرفاعي أن النص القرآني ذو حضور كثيف لديه، وحضر بطرق وأساليب مختلفة، من التأثر العام الذي أشرت إليه في الفقرة السابقة، إلى الاقتباس المباشر كما في ديوانه الثالث كما سبق وقلت، أو التناصات الكثيرة والمتعددة مع النص الديني، قرآنا وأحاديث دون أن يدخل مع النص الديني في سجال تعارضٍ أو تحدٍ، إنما سجال المستفيد من النص وبلاغته، فيستهدي بهديه، ويقلّد أحيانا بعض الآيات أو بعض الأحاديث في الأسلوب، كما وجد في الديوان الثالث، مقلدا ما أثر عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام في مخاطبته لعمه أبي طالب أيام المحنة في مكة، فكتب الرفاعي “أو أهلك دونه”. هذا النص هو نفسه حديث النبي عليه السلام إلا أنه استبدل ببعض كلمات الحديث كلمات أخرى لدواعي الفكرة والموضوع. لعل القارئ سيكتشف هذا بسهولة عندما يقرأ: “أعرفك جيداً،/ لو وضعوا الخيبة في يمينك/ والخذلان في يسارك/ على أن تترك هذا الحزن/ لن تتركه/ حتى يكون من تحب/ بسمة الله في وجهك”. (ص 52)
وليس فقط الأحاديث، لقد كان جريئا في تقليد بعض آيات القرآن الكريم، فأنهى نص “تناسل” بقوله: “قد خلا من قبليَ الرماد” (ص 26). لا شك في أن العبارة رسمت كما رسمت آية “قد خلت من قبله الرسل” (آل عمران، 144)
هذه الطريقة من الكتابة لا تعني الوقوع في سلطة النص السابق فقط، بل تعني الانقياد له، والتسليم بقدرته على حمل الفكرة، والإعجاب بالأسلوب القرآني والبلاغة النبوية، وتعطي شرعية لانتماء النص الحديث لثقافته الممتدة. وتؤكد هذه الطريقة أنه ليس هاويا في التقليد، إنما تعني أنه قادر على تطويع الشكل اللفظي من النص الديني لأغراض أخرى، ويقوم بذلك وهو مطمئن إلى أن هذا العمل مباح إبداعيا وفكريا، ولا خلاف عليه، ولا يدخله في معمعة القول بتحريف النص الديني.
تمتاز كتب الرفاعي الأربعة بأنها تهتم بالجمال، لكن لا مجانية فيها؛ بمعنى أنها لا تغرق في الجمال البحت المبتعد عن الفكرة، فالفكرة حاضرة أيضاً بتوازن جميل، كما أن كتبه الأربعة غير متضخمة، بعدد صفحات أقل من المائة، كأنه يحرص على أن يقول الفكرة بقوتيها الجمالية والفكرية ويمضي غير عابئ بالكثرة والثرثرة. أختلف عنه هنا في أنني لا أحب إلا إنتاج الكتب المتضخمة في عدد صفحاتها، فنادرا ما نقص كتاب لي عن (120) صفحة وتجاوز أكثرها المائتين.
أسهبت كثيرا في توضيح هاتين الميزتين في شعر الرفاعي، هذا الشعر الخالي من الإرباكات النفسية والعقد الثقافية، إنما هو شاعر “لا تستحي أن تسمعه” أو تقرأه وأن تنقده وأن تستلذ بشعره فتلتهم ديوانه في جلسة واحدة، وأن تترنم بشعره، لهدوء جرسه النقيّ من المطبات الإيقاعية والكلمات الوعرة والمستوحشة أو المتحرشة بالذائقة.
جمعة الرفاعي الشاعر أجملنا جميعا لأنه شاعر حقيقي، وأنقانا فكراً وسلوكاً لأنه إنسان سويّ، وأطيبنا سريرة، وأوفانا للحب والصداقة والحياة التي ينبغي أن تعاش على هدي من الأنوار الإلهية، حتى لا نضيع في دياجير اللهب المفضي إلى عدم الفكرة وعبث الكتابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى