رسائل إلى السيدة «ع» (9)

بسَّام الشاعر | مصر – الجيزة

لو تعلمين كم بقيتْ هذه الورقة ببن يدي تنتظرني أخطُّ فيها رسالتي إليكِ لأشفقتِ عليها من طول الانتظار! لا أخفيك؛ لقد خطَطْتُ الكثير من الأحرف، ولكن في كل مرة كنت أرجع أمحو ما خططتُ! وكأني بالسنة الكاملة بفصولها الأربع تمر بالحروف والجمل؛ وكلما انقضى يوم واخضر معه أحد حروفي جعل هذا الحرف بعد ذلك يتساقط عن معناه، فكأنها سنة فصولها فصلٌ واحد هو خريف ممتد! أخشى أن أكتب إليكِ حرفًا فيصلك من ورائه ما لا أريد، أو يصل إليك منه فوق الذي أريد؛ إذ كثرما فُهمت الدقائق على غير ما قرر لها. إن ميزان الذهب لا يصلح أن يوضع فيه الصخر والحجر يا «ع»، وإن الكيميائي الذي يصنع الترياق ويهيئ أسبابه متى زاد في مادته أو أنقص فإنه يخرج به إما لدوام العلَّة ومضاعفاتها إذ لن تؤثر المادة، وإما لما هو فوق العلة لاستحالته سمًّا وضرًّا وبيلًا.

كيف أنت الآن يا «ع»؟ أعلم أنه سؤال قد تناله بوادر العجب، ولكنك لا تفعلين إذا علمتِ أن الطبيب الحاذق الذي يذهب يعمل مِبْضَعَهُ في جسد ينبض بالحياة، باحثًا فيه عن علل الموت قاطعًا أسبابها؛ هو نفسه الطبيب الذي يرجع بعدها ليسأل صاحب الجسد ويقول له كيف أنت اليوم؟ قد يظن البعض هذا الطبيب الذي يصنع جرحًا ثم يرجع يسأل عنه ويداه تقطران منه دمًا، قد يظنه البعض قاسيًا منزوع القلب لا يعرف الرحمة، ولكن الطبيب رحيم يا «ع»، وسر رحمته مصاحب لما يلازم عمله من قساوة.. إن النتائج قد تتأخر، ولكنها لا بد آتية! يمكن أن تقولي إن بين القساوة والرحمة كما يذكر البلاغيون مراعاة النظير. فما يكون من عسر الأمر إلا كان إلى جواره اليسر، وشدائد الأمور لا تُقبل إلا وأقبل معها الفرج. حتى في أعتى صور الطبيعة؛ فالنار التي تحرق وتدمر؛ منها النار التي لا يكون العلاج إلا فيها، والسمُّ الذي يقتل؛ فيه السم الذي تداخله أسباب الحياة.. وعلى هذا اصطلحت قوانين الوجود، فالقساوة والرحمة على ما بينهما من تناقض؛ إلا إنهما صنوان لا يفترقان. وإن المرء لتنزل به الحادثة من حوادث الدهر التي تتصدَّع لها الكبد، وينفطر لها الفؤاد، وتجزع لنزولها النفس، وما فتئ يسمع بها من أحد إلا حوقل واسترجع؛ وما علم صاحب النازلة وما علم من حوله أن الخير والرحمة يسكنان طياتها!

تعلمين أني لم أرد لهذا اللقاء أن يقع يا «ع»، وأني كنت حريصًا على ذلك أشد الحرص. أنتِ تعرفين ماذا يمكن أن يحدث لقطارين متقابلين يسيران على سكة واحدة بسرعة البرق في اتجاه بعضهما بعضًا وقد عطلت مكابحهما عن العمل! ولكن إصرارك هو الذي صنع ما صنع! دائما ما كنتِ متمرِّدة عنيدة في تمردك! ولا أدرى.. ألا تزال سحب الغضب تلقي بظلالها على نفسك؟ أم أن مطرها قد كف وأشرقت بعدها شمس نفسك!! أعلم أنها ستكون إشراقة صافية جميلة، فما أجمل الشمس بعيد المطر وقد غسل القطر السماء! أنا لا ألومك في النهاية يا «ع»؛ إنما ألوم نفسي. اعتدتُ جعل الأمور مرتبة تسير حسب نظام محدد، قد يكون هذا النظام معقدًا، ولكنه يقود إلى الرضا عن النتائج في نهايته. طالما قدمت العقل حتى يبسط ظلال النظام على كل شيء.. طالما وجدتُ الحل البديل لكل ما يخرج عما هو مرتب له، لكن هذه المرة أنا لم أفعل؛ فسبقتْ إليَّ الفوضى، وفي غياب العقل تقع الأخطاء وتكثر العواقب.

اليوم يحتفي أهل اللغة العربية بلغتهم ولسانهم، وأنا لا يمر بي يوم إلا احتفيت بها وقدستها في قلبي! إن العربية دين العرب ودمهم وأعراضهم، وهل يغفل عاقل عن هؤلاء!! أرى أن لا بأس بأن أستقبل منك هدية بمناسبة هذا اليوم، وأنا حريص ألا أدخل الطمع بيننا هذه المرة؛ ولتكن -مثلًا- أكتوبتك التي ذكرتِ لي خبرها سلفًا، فلكم انتظرتها! وآمل أن تكون قد فرغتِ الآن منها.. أنا على يقين أنها ستكون من أجمل وأجل هداياكِ لي! كوني يا طيور الفرح عند شباكها الجميل وغردي، وأنت.. فلتكوني بخير من أجلي يا «ع»، والله يرعاك. 

***

كيف أنت؟ اعتاد الناس ترديد هذا السؤال على أنه شيء من فضول الكلام يُلحق بالتحية. أما إجابته فلا تعنيهم بالقدر الكبير. حتى خرج هذا السؤال عما وضع له، وصار في عرف الناس شيئًا يشابه الأساليب خبرية اللفظ إنشائية المعنى كما هو متفق عليه في عرف أهل البلاغة، وُضِعَ على صورة يراد منها صورة أخرى مغايرة. ولكن سؤالي إليك يا «ع» دائمًا ما كان على الحقيقة ودائمًا ما كنتُ أعني جوابه. تعلمين يا «ع»! إنه ليُخيل إليَّ أن الأشجار تبيت ليلها تفكر في ضوء الشمس سائلة بعضها بعضًا عنه متى تراه يسطع! متى تراه ينثر التبر على أوراقنا! ولقد أمر في الطرقات فأجد نفسي تسألها عنك! ترى.. هل مرت هنا؟ هل كانت طَلْقَةَ الوجه، أم تكلّفتْ عبوسًا؟ هل وقتها كانت تفكر في أمر ما؟ في أي شيء كانت لتفكر إذن؟! لا لا.. إنها مأخوذة بالساعات. لا بد أنها كانت تمر أمام المحالِّ تتفقدها وتبحث فيها عن أكثرهن جمالًا وأخذةً! طالما كنتِ مغرمة بتلك الآلات الدقيقة الصغيرة التي نعلقها بأيدينا! لم أكن لأهتم بساعات اليد حتى وجدتكِ تهتمين أنتِ بهن يا «ع»، من بعدها صارت ساعتي قريبة مني في كل وقت، وكلما تحرك هذا العقرب المتعجل دائمًا، وقد سكن الليل، ولم يبق من صوت إلا صوت طقاته المتتابعة؛ يقع صوته في أذني فيخيل إليَّ أنه يردد اسمك، فأفزع أصرخ فيه أن كفَّ وإلا أوقفتك، فأتذكر حبك للساعات فأرفق به لأجلك. أسأل الله أن تكوني بخير!!

هأنذا أكتب إليك من القطار مرة أخرى. وفي القطار ألف قصة وألف مأساة وألف ملهاة يا «ع»! ولكن هذه المرة لست فيه وحدي! أنتِ هنا إلى جواري يا «ع»! ما زلت أتذكر أمنيتك القديمة في الصعود إلى رحلة على متن إحدى القطارات، وكنت في كل مرة أقول لك: فلتكن أمنية غير هذه، ولكنك كنت تصرين على هذه الأمنية. يبدو أنها قد تحققت دون أن آذن بها. فكأني بكِ الآن إلى جواري باسمة الثغر، ضاحكة العينين وقد ملأ الفرح قلبك! كأني بعينيك صارتا عين طفل ينظر ويسجل كل شيء من حوله، عيونك معلقة بالقطار والمسافات التي يقطعها، وعيني معلقة بكِ وحدك! إني فيهما قنديل مضيء يتلألأ، فلا تطفئي هذا القنديل يا «ع»! أراكِ الآن وقد أصابك الضجر من تلك المرأة الثرثارة التي تجلس خلفنا هي وبناتها اللائي فقنها في الثرثرة، ما أجمل صغيرتي الحلوة وهي ضجرة غضبى! إن سؤالًا قد ألقى عليَّ حيرة! ترى أيهما أجمل وأكثر بهاء في عيني! هل هي «ع» المتأفِّفة الضجرة، أم «ع» الراضية الفرحة! أم هي «ع» الحيرى التي لا تدري أي شيء تريد؟! لا.. لا تتعجلي يا «ع»، فجوابك صحيح في كل حالاته. إن فتنتك لا تزال تحيطني بخيوطها القاسية، وبعد لأْي شديد قررت الاستسلام لها. فلتطمئن صغيرتي.

اذكريني في قلبك يا «ع»، ولتخطّ أناملك في ورقة بيضاء قول مي -ولتجعليه بين كتبك- يوم كتبت: «كما تجذب الأجرام السماوية بعضها بعضًا بجاذبيتها الأبدية؛ كذلك تجذب الأرواح المتآلفة بعضها بعضًا وترتبط الواحدة للأخرى برباط الحب الأبدي». وسلام على روحك العذبة أينما تكونين، والله يرعاك يا «ع»، والله يحفظك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى