في الأداء الإعلامي خلال المعارك

نهاد أبو غوش | فلسطين

في الحروب والمعارك ومهما كانت طبيعتها ومشروعيتها وأهدافها، لا يمكن فصل الأداء الإعلامي للمعركة عن جوانبها الأخرى سواء ما يدور في ساحات القتال المباشر، أو ما يستند إليه المحاربون من جبهات داخلية، وعوامل لوجستية وإدارية واقتصادية وثقافية. ولدينا شواهد كثيرة عن معارك لعب فيها الإعلام دورا مركزيا سواء في تعظيم الانتصارات أو في تقليصها وتبديدها، وكذلك في تبرير المعارك وإضفاء الشرعية على ما هو عدواني آثم ومخالف للقانون الدولي، وما هو ليس شرعيا بالضرورة.
لدينا كثير من الأمثلة والنماذج التي تؤكد أهمية الأداء الإعلامي خلال المعارك والذي قد يؤدي إلى تعزيز الأداء العسكري أو إلى قلب النتائج، أو تبرير الجرائم. ففي حرب حزيران 1967، والتي كانت من أبشع الهزائم التي تعرضت لها أمّة في التاريخ الحديث وما زلنا حتى اليوم ندفع ثمنها دما ودموعا ومعاناةً يومية وياسا وإذلالا، أدت المبالغة الإعلامية والتضخيم الكلامي لقدرات العرب العسكرية من قبيل “تجوّع يا سمك” و”في البحر حنرميهم”، وأساطير صواريخ القاهر والظافر، إلى إخفاء الأهداف العدوانية والتوسعية الإسرائيلية والتي كانت معروفة وواضحة لكل متابع جادّ. كما أدى خطاب المعركة الإعلامي إلى تصوير دولة الاحتلال على عكس حقيقتها، وإلى إظهارها وكأنها دولة مظلومة وبريئة محاطة بعدد من الجيوش المتعطشة للدماء والوحوش الشرسة التي تتأهب لافتراسها والقضاء عليها. وهذه الصورة الزائفة والمضللة خلقت جوا واسعا من التعاطف مع إسرائيل في الغرب، وساهمت خلال العقود اللاحقة في تبرير النزعة التوسعية لإسرائيل من قبيل ادعائها بأنها تواجه خطرا وجوديا، وحاجتها إلى “حدود آمنة ومعترف بها” وبالتالي تمسكها بدوام السيطرة على الحدود مع الأردن وضم هضبة الجولان.
مثال آخر هو ما فعله الغرب العدواني في التضخيم المتعمد لقدرات العراق العسكرية خلال حربي الخليج الأولى والثانية، وهذا التضخيم والتهويل لقي هوىً عند صدام حسين وحكام العراق، فعمدوا لترداده واعتمدوا خطابا محليا وعربيا وعالميا يصوّر العراق قادرا على مواجهة الحلف الثلاثيني والانتصار عليه في “أم المعارك”، وهو ما تكشف عن أكبر كذبة في التاريخ الحديث عندما انهار الجيش والبلد بأسره خلال ايام معدودة، ومني العراق ومعه العرب بهزيمة مُرّة ما تزال تنيخ بكلكلها على العراق وعلى العرب حتى الآن ولسنوات قادمة.
ولدينا مثال جديد من تجربتنا ذو أهمية كبيرة، وهو ما فعلته دولة الاحتلال بعد معركة سيف القدس التي اسمتها “حارس الأسوار” ، حيث شكلت حكومة الاحتلال نحو خمس عشرة لجنة لدراسة جوانب الإخفاق والقصور في مجالات عديدة مرتبطة بالمعركة، ومن بينها مجالات عسكرية مثل نجاعة القبة الحديدية وأنظمة الدفاع ضد الصواريخ، وكفاءة أجهزة الاستخبارات، ومستوى التنسيق بين الأسلحة المختلفة، ومنها كذلك متانة الجبهة الداخلية، وسبب الإخفاقات الإعلامية التي مكّنت الفلسطينيين من توحيد صفوفهم ونقل روايتهم للعالم بأسره، مما ساهم في استقطاب الدعم العالمي وانطلاق المسيرات الهائلة في مختلف عواصم العالم ومدنه الكبرى، على الرغم من أن المقاومة الفلسطينية كانت هي البادئة في إطلاق الصواريخ ردا على انتهاكات الاحتلال في القدس والمسجد الأقصى.
من المسائل التي برزت في هذا السياق قدرة الفلسطينيين وأنصارهم على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة ومن بينها (تيك توك) و (انستغرام) في نقل روايتهم في الزمن الحقيقي كما فعلت الناشطة منى الكرد من حي الشيخ جراح، والتقرير المذهل الذي بثته الطفلة نادين عبد الكريم (10 أعوام) من غزة، وسمعه العالم بأسره، وكذلك الأطفال الذين حرصوا على إنقاذ حيواناتهم الأليفة وكتبهم ومتعلقاتهم الشخصية، والصور والعبارات القوية والمؤثرة التي كانت تضخها العارضتان العالميتان الشقيقتان من أصل فلسطيني بيلا وجيجي حديد، ولعل هذه الأمثلة بالتحديد كانت أقوى أثرا وتأثيرا من آلاف الخطب والبيانات السياسية.
وكما يفعل الاحتلال بعد كل معركة، لا يعيبنا، بل يجدر بنا أن نجري تقييما لأدائنا، لكي نكتشف مكامن الخلل والقصور فنعمل على تلافيها في المرات القادمة (وهي آتية بلا ريب) ومكامن القوة فنعمل على تطويرها وتعزيزها.
من أهم المجالات التي ينبغي تقييمها وإعادة النظر فيها، الأداء الإعلامي خلال المعارك، حيث يتميز أداؤنا بشكل عام بطابعه الإنشائي والعاطفي الذي يعمد إلى المبالغة، ويوحي وكأنه موجّه للداخل من أجل رفع الروح المعنوية، وليس موجها لكسب اصدقاء وتحييد أعداء ومراكمة الإنجاز ونقل الصورة الحقيقية كما هي.
يميل هذا الأداء إلى المبالغة في قوتنا وقدراتنا، جريا على مبالغات الشعر الجاهلي في الفخر، ويوحي بأنه الحق أذى بالغا واضرارا لا يمكن تعويضها في جبهة المحتلين، بل يردد دائما بأن الاحتلال لا يمكنه أن يتحمل اية خسارة. وجميعنا يذكر القول المأثور عن مهارة اللغة العربية في تحويل الهزيمة إلى مجرد نكسة، والنكسة إلى خسارة عابرة لن تلبث أن تتحول إلى انتصار مزعوم لأن الاحتلال فشل في إسقاط الأنظمة العربية.
هذه المبالغات والتهويل والتضخيم سرعان ما تتكشف، وينقلب معها مزاج الراي العام بعد أن يرى أننا لم نحقق انتصارا، وأن سلسلة الانتصارات التي يجري الحديث عنها تزيد من اوضاعنا سوءا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى