فكر

الترجمة ومآلات الفهم والتداول المعرفي بين الشعوب

حاجة الرؤية الاستشراقية إلى تفكيك الخطاب الكولونيالي

بقلم : عماد خالد رحمة | برلين

تعتبر الترجمة نقلاً للثقافة والفكر والحضارة الإنسانية، من خلال تحويل نصٍ من لغةٍ إلى لغةٍ أخرى، أونص مسموع أو مرئي، والترجمة في الأساس هي عملية نقل كل كلمة وجملة بما يقابلها في اللغة الأخرى من أجل توصيل المعلومة، وتوصيل رأي أو فكر الكاتب وأسلوبه وثقافته. هذه العملية كانت مثار جدلٍ عبر التاريخ، فقد تباينت المواقف وتناقضت النظريات حول الترجمة ودورها وأساليبها التي انبنت عليها. فقد وصف المفكر والناقد الأدبي الأمريكي، فرنسي المَولِد (فرانسيس جورج ستاينر George Steiner‏)(1920ـ 2020) م نظرية ثالوث الترجمة الدقيقة الحرفية أو الدلالة بالدلالة أو الكلمة بالكلمة. والترجمة المحكَّمة الأمينة. وهي بذلك تعتبر فناً مستقلاً بذاته ولذاته لأنّ المترجم يعتمد بشكلٍ أساسي على الحس اللغوي، والإبداع والقدرة الفائقة على تقريب المفاهيم والآراء والثقافات. والترجمة فنٌ قديمٌ قِدَم النصوص الأدبية والملحمية المكتوبة، فعلى سبيل المثال لا الحصر تمت ترجمة ملحمة جلجامش السومرية، وملحمة الإلياذة والأوديسة إلى عدّة لغات في العالم، أهمّها اللغات الآسيوية منذ بدء الألفية الثانية قبل الميلاد. حيث كانت وما تزال الترجمة عملاً تأويلياً للنصوص المكتوبة، ويكون دور المترجم الأساسي بنقل النص من لغة وأسلوب وثقافة الآخر، إلى لغة وثقافة وحضارة الأم أو العكس.
وخلال مسيرة التاريخ كانت الترجمة تقوم بدورٍ هام في نقل نصٍ ما، بعد فهمه ومعرفة مراميه وأهدافه باعتماد طريقة تفكيك النص وتأويله أي (الهيرمينوطيقا) وهي منهج تأويلي تتعلّق بالقضايا والمعيقات والمشاكل التي تنشأ عند التعامل مع السلوك والأفعال الإنسانية الحاملة لنواتج ومعنى هذه الأعمال، وخاصة النصوص. حيث يرتبط التأويل الذي هو نشاط إنساني حاضر في كل الأزمان كتقليد قديم بمجموعة من العوائق والحواجز المتكرِّرة في حياة البشر .
إنّ سيرورة الترجمة منذ صيرورتها الأولى تدفع المترجم لمعرفة الآخر كخطاب وأسلوب تعبير سواء كان نصاً أدبياً أوعلمياً أو قانونياً أو فلسفياً. فهي بالنهاية تسعى لتقريب الآخر وفق رؤية ثقافية وفكرية ومعرفية تتحاور وتتفاعل مع النص المكتوب، باحثةً عن نقاط لقاء وتفاهم بين النص المصدر والنص الذي تمت ترجمته. وهذه العملية تكون فعلاً ممكناً بالرغم من التنوع واختلاف الأنساق الثقافية واللغوية. في هذا السياق تتشابك المواقف والاستراتيجيات وتكثر الرهانات، وينتج عنها مواقف لم تكن متوافرة قبل الترجمة لفهم الآخر، وذلك نتيجةً للقراءات التأويلية وفق منهجية محدّدة ،ورؤية فكرية وثقافية ترتبط بقوة بالموروث الثقافي والمعرفي واللغوي الذي يحدِّد رؤية كل من المتلقي والمترجم معاً. وهنا تنشأ إشكالية قديمة جديدة تتعلّق بــ (الأنا) و (الآخر). حيث يعكس (الأنا) حالة المتخيّل الجمعي والمعرفي والثقافي والحضاري عن (الآخر) حسب صيرورة وسيرورة الأحداث والعلاقات التي تجمع الأشخاص والمجتمعات والدول والحكومات. سواء كان ذلك من خلال التضامن والتعاون، أو من خلال السيطرة والهيمنة .حيث نجد شعوبنا العربية المقهورة تعاني حالةً من الاغتراب والاستلاب الثقافي والمعرفي نتيجة وجود الاستعمار الكولونيالي القمعي ودوره السلبي في نهب خيرات بلداننا العربية وسرقة كنوزنا وثرواتنا، وتحريف تاريخنا والعبث بأدبنا وتراثنا وديننا. تلك الدول والشعوب (الآخر) تعاملت مع شعوبنا الـــ (نحن) باستعلاء وفوقية. وهذا ما جعل ذواتنا العربية الــ (نحن) تنظر لذاتها والعالم (الآخر) وفق رؤية صنع (الآخر) وتقنع ذاتها بما تتصوره .
في هذا السياق نرى أنّ الرؤية الاستشراقية تحتاج إلى تفكيك الخطاب السياسي والفكري والأدبي الكولونيالي بخلفياته الاستعمارية ( الإستدمارية) الممتدّة في الزمان. عملية التصحيح هذه تقع على عاتق الفكر النقدي الذي يجب أن يسائل واقع (الأنا) و(الآخر) لصنع أفق ممكن للاختلاف والتناقض الثقافي والمعرفي والفكري والحضاري المبني على التكافؤ والإنصاف اللغوي والاعتراف به والإنصاف الثقافي والمعرفي لجميع مكوناته. يجعل من التوافق والتعايش المشترك الهدف والغاية لبناء التضامن والتعاون بين المجتمعات والدول والحكومات. والترجمة باعتبارها تواصلاً وتأويلاً بين (الأنا) و(الآخر) تفسح مجالاً للتفاهم والتقارب والاستفادة من المعارف والعلوم بمختلف تخصصاتها. وتساهم بشكلٍ أو بآخر في تقدم المجتمعات والشعوب وتطورها من خلال الإشعاع الفكري العقلاني والثقافي ونشر الإبداع الأدبي والفلسفي والفكري والفنون بأنواعها. وتنمّي خاصية الجمال والذوق الرفيع. وتساهم في رفع شأن الإنسان وتحفّزه على بناء المجتمع على أسس التعدّد والإنصاف والاختلاف والتضامن .
تؤدي الترجمة كفعل تأويلي إلى معرفة كنه (الآخر) فقد اعتبرها الفيلسوف وعالم اللسانيات الفرنسي (بول ريكورPaul Ricœur) (1913 ـ 2005) م كاستضافة لـ (الآخر) بحيث تستقبل لغة وثقافة شعبٍ من الشعوب لغة وثقافة أخرى. وهذا يحدِث حالةً من التفاعل والاغتراب والاشتباك. ففي هذا السياق يرى الفيلسوف (بول ريكورPaul Ricœur) أنّ كل من يقوم بفعل الترجمة المتخصص هو مؤوِّل باعتباره يمارس نقل الفكر والفهم والتأويل والتفسير والتوضيح. من هنا تكون عملية الترجمة ممكنة وضرورية في الآن ذاته.
أمّا الفيلسوف والروائي والباحث الإيطالي (أومبيرتو إكو Umberto Eco) (1932 ـ 2016) م مؤلف رواية (اسم الوردة) الشهيرة، يرى الترجمة كعملية تفاوض وحوار داخلي بين النص والمترجم من جهة، وبين اللغات والثقافات من جهةٍ ثانية، بأبعادها ومقاصدها المتعدِّدة المختلفة قصد الوصول إلى النص المنشود، من خلال استعماله التأويل والتفكيك للغة في بعدها السيميائي والرمزي، وما تتضمنه من قراءات وإحالات. تجعل من فهم النص المترجم أكثر اتساعاً وعمقاً تتقاطع فيه مختلف الأهداف والمقاصد اللغوية والثقافية والفكرية والتوفيق بينها. قصد ترجمة المدلول والمعنى المتنوع والمتعدّد للنص والتواصل مع القارئ .
من هنا يمكننا اعتبار الترجمة فعلاً تأويلياً تعمل على تقدم وتطوير التفاهم والتواصل بين (الأنا) و(الآخر) على الرغم من التنوع والاختلاف اللغوي والمعرفي والثقافي. فاللغة الأم عبر الترجمة تساهم بشكلٍ فعّال في التواصل بين الـ (الأنا) والـ (الآخر) وانفتاحها على اللغات والثقافات العالمية. الهادفة إلى نقل المضامين المعرفية والأفكار والتعرّف على مضامين معجم ومعاني وتعبيرات نص آخر في سياق متكافئ لغوياً وثقافياً ومعرفياً وحتى علمياً. يجعل من لغة التواصل والحوار بين الثقافات واللغات والحضارات عملية هامة تتضمن تقريب (الآخر) وتقوية الروابط الإنسانية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى