قصة قصيرة جدا: أبوابٌ مُوصَدةٌ

د. موسى رحوم عبَّاس | الرياض

        غالبًا ما تأتيني أفكارٌ مجنونةٌ، تُطْبِقُ على صدري، تسيطرُ عليَّ لدرجة الاعتقاد الكامل بصحَّتها. آخرها دهمني بعد انتقالي إلى المدينة إثر غرق قريتي وموتها، كنت أقضي سحابة اليوم في الشَّوارع والحدائق العامَّة، وسيكون سرًا بيننا أنَّني كنت مفتونًا بالنساء، وتحديدًا بمؤخِّراتهن، وسأشطب هذه الكلمة لاحقًا. وكنت مثل النَّحل الذي يتبع الرَّائحة، أو أنني من سلالة كلابٍ مدرَّبة:  هذه رشَّت قليلًا من اللابيدوز، وتلك جاكومو، أما تلك البدينة فقد اغتسلت بالشَّانيل فايف. نعم هذا هو الاسم، ثم صرت أكمن بين الأشجار وأراقب الشُّرفات، تكون مضاءةً وفجأةً تنطفئ إلا من نور خافت غالبًا ما يكون الأحمر. همسات ناعمة تصل إليَّ كما في حلم. مدينة نصفها ينام على نصفها الآخر. أعتقد أنَّني قد أعدِّلُ هذا التعبير لاحقًا. تلك السِّتارة التي تهتزُّ فجأةً، يظهر خلفها ظِلَّان، بل جسدان متعانقان. تُفْتَحُ نافذةٌ فجأةً ويُلقى بملابسَ ملوَّنةٍ، هذه حمَّالة صدر، فقبَّعةٌ عسكريةٌ، تلتها سترةٌ عليها نجومٌ لامعةٌ، وتلك ربطةُ شَعْرٍ، بل شيء آخر سأتكتم عليه. قال لي معالجي في المجمع الطبِّي ومركز إعادة التأهيل إنَّ ذاكرتي بصريَّة، وسألني إنْ سبقَ لي العمل في جهازٍ أمنيٍّ ما، ضحكتُ جهرًا، وشتمتُه سرًّا. نعم أستطيع تحديد شكل تلك الرُّسوم النَّاعمة على الدَّانتيل، تمنيتُ لو أنني لم أنَمْ جائعًا منبوذًا في تلك الأجَمَةِ الصَّغيرة، لو أنَّني استطعتُ رسم صور تقريبية لكلِّ تلك الوجوه التي تطاردني، ولتلك الوجوه الشَّاحبة التي عبرت معي في القارب، للرجل الذي صفعني لأنني أردتُ تدخين سيجارة في الكرسي الخلفي لسيَّارة الدوريَّة التي وقفت أمام بيتنا القديم، ثم انطلقت بنا مثيرة الغبار والشتائم في شارعنا الترابي. فقط لو أنَّني لم أنَمْ!

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. خطوة متقدمة للعناية بالكلمة المسؤولة العميقة، لنشر أدب يليق بالذائقة، أبارك لكم هذا المنجز، راجيا لكم دوام التوفيق.
    تحياتي لأسرة التحرير، والصديق الدكتور ناصر أبو عون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى