المثقف والاغتراب الرديء

أحمد برقاوي | باريس

يعيش المثقف عادة حال الاغتراب الذي لا يفارقه طوال حياته الإبداعية. بل قل إن الاغتراب هو أس التجربة الكتابية لمثقف أوتي أي حظ من موهبة الإبداع. وآية ذلك أن المثقف هو دائما ابن الممكن المتجاوز للواقع، ولهذا فهو يعيش تجربة المايجب أن يكون على نحو مستمر، يعيش تجربة التناقض بين أحلامه وآماله وواقعه، ويعبر عن هذا التناقض في الفن والأدب والفلسفة، بوصفه متمردا، والتمرد هنا هو التعين الحقيقي لاغتراب المثقف. فيتمرد على اللغة السائدة، يتمرد على السلطة السائدة، يتمرد على الفكر السائد وهكذا.

لا يمكننا أن نفهم مستقبل الثقافة في مصر لطه حسين، أو معالم الحياة العربية الجديدة لمنيف الرزاز أو الماركسية والشرق لإلياس مرقص أو خطابات مثقفي الأيديولوجيات الكبرى القومية والاشتراكية إلا بوصفها تجاوزا للواقع، وثمرة من ثمرات التناقض بين الممكن الذي يحلمون به والواقع الذي يرفضونه، بمعزل عن الموقف النقدي من هذه الخطابات. ولأن الشاعر ديناميت اللغة فهو المعبر العظيم عن اغترابه هذا. وفِي اللحظة التي يتوقف فيها المثقف عن أن يكون روح الممكن ،فإنه يلفظ أنفاسه الأخيرة ويغترب عن ذاته.

لا أحد يعرف الشروط النفسية والمادية التي تجعل من المثقف رديئا ومغتربا عن ماهيته، ولا الشروط التي تحمل مثقفا على الانتقال من الاغتراب كموقف تمردي إلى الاغتراب الرديء كموقف خنوعي وهزلي، لكني أعرف أننا في هذه المرحلة التراجيدية للتاريخ العربي حيث ولادة الحياة بألم شديد، هناك جمهور من مثقفي الشعر والقصة والمقالة يقفون إلى جانب الوسخ التاريخي الحاكم القاتل للحياة، ويعيشون الاغتراب الرديء، هؤلاء لم تؤثر بهم آلام الذين قضوا سجنا وقتلا وتشردا وقهرا، آلام المشردين عن أوطانهم ويصفق كلامهم للقتلة.

الاغتراب الرديء للمثقف، بوصفه اغترابا عن ماهية المثقف كما أسلفنا، الماهية التي لا يجوز أن يُختلف فيها، ولسنا بحاجة إلى سارتر وغرامشي للتدليل عليها، أقول الاغتراب الرديء هذا هو تعبير عن ماهية رديئة للشخص نفسه ،وعن هوية لا ترى وجودها إلا في حقل الوسخ التاريخي الحاكم، وبالتالي، هوية قائمة هناك حيث استترت وراء الأيديولوجيا الزائفة، لأن المسألة في نهاية الأمر مسألة انتماء. المثقف الحقيقي يغترب عن العالم لأنه منتم إلى ممكن الحرية، بل وإلى الحرية المستحيلة في بعض الأحيان ،الممكن المناقض لواقع الاستبداد فيغترب عن الواقع المتعين والمعيش المناقض لحلمه الوجودي، فيما المثقف الزائف ينتمي إلى الواقع الرديء نفسه، فيغترب عن ماهية المثقف.

وليس مثقف البديل النكوصي إلا صورة من صور الاغتراب الرديء. ولعمري أنه من حسن حظ الثقافة المبدعة الآن وجود مثقف الاغتراب الحقيقي المنتمي إلى روح التاريخ المتجاوز وصانعيه دون أي مساومة على ماهيته، إنه مغترب عن العالم، لكنه متطابق مع ذاته.أجل، إن مثقف الاغتراب الرديء مثقف القبح اللاإنساني الأشد قتامة، ولكنه الأسرع زوالا. إنه كما سميته مرة: مثقف الغبار.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. “الاغتراب الرديء هذا هو تعبير عن ماهية رديئة للشخص نفسه ،وعن هوية لا ترى وجودها إلا في حقل الوسخ التاريخي الحاكم،”
    نعم هذا هـو الوصف الدقيق لرداءة المثقّـف الذي يتنازل عن دوره وهويته الثقافية والإنسانية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى