الرمز والأسطورة في “عرّاب الريح” لـ”عبد السلام العطاري”

أمين دراوشة | فلسطين

 

     يلجأ الشاعر في قصيدة النثر غالباً إلى الصورة الشعرية، إلى المجاز المتحرر من سلطة النظم الايقاعية بإحالة المعنى لتكون بديلاً عن الإيقاع الخارجي الذي يميز القصائد القديمة ذات الوزن والقافية، هناك من الشعراء من لامس الصور الشعرية من بعيد، وهناك من أبدع في صوره الشعرية الغربية والمبتكرة لدرجة أصبحت هي وجه القصيدة الباسم. والصور في قصائد ديوان “عرّاب الريح” ليست صور بسيطة بل هي صور مركبة ومعقدة وتحتاج إلى الصبر والأناة لفهمها مع ثقافة للدخول إلى عالم الرمز لكي يستطيع القارىء بناء المعنى الذي أراده الشاعر، والمعنى في شعر العطاري مفتوح على المدى ويحتمل العديد من القراءات.

    لقد احتفى الشاعر عبر رموزه بالطبيعة التي هي المنبع الرئيس لشعره، كما اهتم الشاعر بالجسد بشكل غني، حتى بدا وكانه معادل موضوعي للوطن –فلسطين. لقد أورد الشاعر أعضاء الجسد في احتفاء به، وهذا له دلالاته التي لا تخفى على القارئ الحصيف. فالألفاظ كـ: العين، الشفتان، الفم… تعتبر من مفاتيح القراءة التي لا غنى عنها من أجل الدخول إلى عالم العطاري الشعري. كما اهتم بالموروث التاريخي والديني والأسطوري، واستعان به ليعبر عن ما يعتمل نفسيته من حزن وألم وفرح أمل.

     لقد عانى الشعر المعاصر من الكثير من العقبات التي وقفت في وجهه، إلا أنه استطاع أن يفرض حضوره الطاغي على المشهد الشعري العربي، ولقد عبر الناقد والشاعر محمد بنيس عن ذلك بقوله: ” “يدافع الشِّعر عن طفولته اللّانهاية فيما هو يستقصي حداثة أخرى بالشكوك العنيدة. وحداثة الشعِّر العربي معزولة حتماَ، بأفعال استبداد المغلق في مجتمع جريح، حيث الدم وحده يكاد ينفرد بالزّمن وأهله. فهل يمكن للشِّعر، بعد هذا، أن يدافع، مجدّداَ، عن طفولته؟ وكيف له أن يستقصي حداثة أخرى؟ وبأيّ عناد تبدأ الشُّكوك؟”. (1)

كان الشعر قديماً عند أهل العلم به كما يقول الآمدي ليس: “إلا حسن التأتي وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها وأن يورد المعنى باللفظ المعتاد فيه، المستعمل في مثله وأن تكون الاستعارات والتمثيلات لائقة بما أستعيرت له وغير منافرة لمعناه..فإن الكلام لا يكتسي البهاء والرونق إلا إذا كان بهذا الوصف”. (2)

بينما الشعر الحديث قصائده تشعل الأسئلة، وتصارع النقيض، وتوحي بمغامرة الشاعر الذي لا يكف عن استنهاض الأمل، يده المرتعشة تكتب وهي تنز ألمًا.

وعرف بعض الشعراء والنقاد الغربين الشعر على أنه تعبير عن العاطفة المتأججة بما تحمله من حزن أو فرح والتي تخرج عبر الموسيقى والخيال. فالشعر يحملنا على بساط الريح من الظلام الحالك إلى النور.

فالشعر عند روبتسن: “لغة الإحساس تصور ما لا قدرة لنا على تصويره من حدث لا طاقة لنا على وصفه، وإن علت مرتبة الشعر أو صغرت”. (3) 

 والكتابة حسب محمد بنيس لا تكتب عن شيء بل تنكتب مع شيء. هي أثره، “في انفلات الحدود بين الداخل والخارج، بين الأدب والفكر، بين الشعر والنثر، بين السواد والبياض، تبحث الكتابة عن مقامها، إنها شفيع التجربة التي تنتهي لتبدأ، نازعة عنها كل نبويّة أو غنائية. حلزونية تكون ويتيمة تبقى”. (4)

يبحث الشاعر عن قصيدته، وبحثه مترابطاً عن سعيه الدؤوب لفهم الذات والعالم، ويعتبر محمد بنيس أنَّ القصيدة والذات والعالم أمكنة تصطدم بينها لتفجر سؤال المعرفة الذي هو نقيض السكينة والرضا  “إن السؤال تدخّل عنيف في المعطى الذي لم يعد بديهياً، ولذلك فهو يتضمّن، أساساً، بذرة المتاه والاختلال والخروج صراحة على القواعد القبلية أو التصورات المتداولة. إنه الذهاب الآخر في جنون المستحيل. ولعل ما هيأ للمتاه هو اختيار البحث، شعرياً، عن الذات والعالم. فالمكان الشعري موجّه لإستراتيجية البحث والسؤال”. (5) وتعاملي مع الشعر به قرّب منّي رؤية مغايرةً للذات والعالم.

هذا البحث عن الذات والعالم شعرياً يهب القصيدة استقلاليتها، فالشعر ما هو إلا فضاء لا محدود للحرية والقلق والسؤال.

الفعل الشامل والفاعل للشاعر في بحثه الذي لا يفتر عن القصيدة والذات والعالم، يجعله يعثر على ما سعى إليه في وضعية القيم ذاتها، وفي صدارتها قيمتا الحرية والافتتان. فهل وجد الشاعر العطاري حريته وافتتانه؟

  تنتصر في الشعر زهور الحياة رغم كل شيء، وهذا ما بثه الشاعر العطاري في شعره. يقول في قصيدة “الأرض”:

“الهواء الذي امتلأ بالنشيدِ،

النشيد الذي نسي اسم البلاد،

البلاد التي نسيت اسمها…

لونها الذي غاب في غبار ِالمشاةِ

المشاة الذين يغيبون إلى حين ذكرى

الذكرى التي تتناثر كتبغِ الصباح،

تصعد ببطءٍ على خيطِ الندى.

وحدها دونهم ووحدها بدونِهم

بلا هتاف تمضي

وحدها دونهم ووحدها بدونِهم

تطير مع الأغنيات

وحدها … وحدها

تعود كل عام مع الأمنيات”. (6)

 

رسائل الرمز في ديون “عرّاب الريح”

    يستخدم الشاعر الرمز، ليساعده على ارسال رسالته إلى القارئ، ولأن الرمز وافق تجربة مر بها الشاعر. في الديوان الكثير من القصائد التي يرثي فيها الشاعر الوطن باستخدام الرمز، ويعبر عن حزنه الشديد لما آل إليه من خراب وضياع وعدم قدرة على التجديد، والعطاري كما الشاعر الألماني “هاينه” ربط رثاءه لفلسطين برثائه لنفسه وإن كان هاينه لجأ إلى السخرية في التعبير مما يهز عواطف القارئ، يقول:

“وعندما شكوت لكم آلامي

تثاءبتم ولم تقولوا شيئا

وعندما وضعت شكواي في أبيات مزخرفة

وجدت كثيرا من المديح”. (7) فالعمل الفني في النهاية هو “نتاج عملية تفاوض بين مبدع…يمتلك مخزونا من التقاليد المركبة التي تشاركه فيها الجماعة وبين مؤسسات المجتمع وممارسته”. (8) وهذا يحدد لنا العلاقة بين النص والعالم الخارجي.

فالعمل الأدبي وثيقة كما يقول الناقد كلينث بروكس و”يمكن تحليله في ضوء القوى التي أنتجته”. (9) ثم “إنه يعكس Mirrors  الماضي وقد يؤثر في المستقبل”. (10) حيث أنه “يمكن اعتباره قوة في ذاته”. (11)

يقول الشاعر ادجار الان بو الذي عبر بأدبه بالرمزية ثم انتشرت عن طريق بودلير ومالارميه، يقول عن الشعر: “إن الشعر خلق من الجمال في جو من الحلم، ومثل تعطشه إلى اللانهائي واللامحدود، والاندفاع إلى الجمال الغيبي المجهول، ومثل إيمانه بأن الإبهام عنصر الشعر الأساسي مثلما هو عنصر الموسيقى الأول، ذلك لأن الإيضاح والبوح بكامل الأشياء يعريها. ولهذا يدعو الشاعر إلى نفي وتجريد فكري”. (12)

لكن كثرة الرمز تؤدي إلى الإبهام والغموض الذي يقتل الشعر لأن القارئ سينفر منه لأنه عصي عن الفهم.

غير أن الشاعر العطاري يستخدم رموزه بشكل لا يستقبلها القارئ بسهولة إلا أنها قابلة للفهم ومعانيها في متناول يد القارئ رغم أنها يمكن أن تفتح قصائده على معاني عدة.

 

الرمز الأسطوري

     تعرّف الأسطورة بأنها:” الشكل الرمزي الذي تعبر به الثقافة عما هو بالنسبة إليها حقائق وجودية وكونية”. (13) وهذا يعني أنها تصور للوجود من شعب له ثقافته المميزة.

ويعرفها كامبيل: بأنها: “الفتحة السحرية التي تنصب منها طاقات الكون، التي لا تنفد، إلى مظاهر الحضارة الإنسانية”. (14) وكأن هذه الفتحة هي الشريان التي تغذي الحضارة الانسانية، وتظهر في غياب الحقيقة وعدم المعرفة والمجهول لتفسير يطمئن به الانسان روحه.

لقد برع الشاعر في استخدام الأسطورة، حتى أنه اختار إحدى أجمل قصائد الديوان، ليعنونها باسم “سبارتاكوس” Spartacus (ولد سنة 109 ق.م – وتوفي سنة 71 ق . م )  هو رمز تحول إلى أسطورة، تم استخدامه للتعبير عن الثورة ضد الظلم، والمصادر التاريخية تقول أنه رجل حقيقي، وهو من مصارعي الحلبة الرومانية من أصل تراقي  وكان “أحد قادة ثورة العبيد في حرب الرقيق الثالثة وهي إحدى كبرى الانتفاضات التي قام بها رقيق الإمبراطورية الرومانية. لايعرف الكثير عن سبارتكوس عدا ما حدث أثناء الثورة والحرب ضد الامبراطورية الرومانية وما نجا من مخطوطات تاريخية متناقضة وليست موثوقة في معظمها. لكن الذي تتفق فيه كل المصادر أنه كان محاربا قديما في الحلبة الرومانية وكان قائدا عسكريا ناجحا”. (15)

ألف عن سبارتاكوس العديد من الأعمال السينمائية والفنية والأدبية، وتم تصويره فيها كقائد ثورة المظلمومين ضد امبراطورية روما الاقطاعية، التي استعبدت الناس واستغلتهم أبشع استغلال.

يقول العطاري في قصيدته:

“كنت أرى سبارتاكوسَ

يجرُّ قبائلَ البحرِ إلى البحرِ

ينحني على إيقاعِ خطوِ المعفّرينَ

الباحثينَ عن ليلٍ رخيٍّ

عن حلمٍ يلامسُ  خلخالَ المساء

كنتُ أراهُ يحلمُ بصخرةِ الموتِ تجرّهُ

صخرةٌ تثّاقلُ على صدرِهِ الطريِّ

لَزِجَةٌ تلتصق بحبةِ القلبِ المبعثرِ على الندى

وشقرواتٌ يمرّغْنَ جدائِلِهن

والصدرُ يفردُ بياضَه شهوةً للغرباءِ

والصدرُ يفردُ قهرَه على أنينِ حروفٍ”. (16)

إذن يرى الشاعر سبارتكوس روح الحرية المشتعلة، التي لا تكف عن المقاومة، ولا تلين رغم العقبات المستحيلة أمامها، هو رمز الكرامة والكبرياء، عاشق الحلم الذي يبرق دوما في سواد الليالي. خاض سبارتاكوس العديد من المعارك مع جيوش روما وانتصر عليهم أكثر من مرة حتى اكتشفت روما خطره المخيف فبعثت جيشا جرارا لمحاربته، “أسندت القيادة إلى ماركوس لوشيوس كراسوس، فهُزم سبارتاكوس عام 71 ق.م، وقُتل في المعركة، ويقال أن ماركوس أقام الصلبان على طــــول الطريق من روما إلى كابووي، وقد علّق عليها الآلاف من الذين بقوا على قيد الحياة إثر المعركة، ليكونوا عبرة للآخرين”. (17)

يضيف الشاعر:

“يُكمِلُها طفلٌ في عيْنيْهِ ..تأْتأَةٌ ..

كلَّما ومضَ جرحُه دماً

يعطي من زرقَةِ عينيهِ بحراً للقبائِل

وناياً من حنجرةٍ تئنُّ بالهتاف

 ويقول:

سلو من بقيَ خلفَ قدميَّ

 يختبئون من نعاسِ الليالي الطويلَةِ

والحكاياتِ تثّاءب على شفتينِ مثقلتَينِ بالأغاني

سلوهم يكملونَ الدرّسَ

يعجنونَ في صباحاتِ نيسانَ من ربيعِ البلادِ

 رغيفَ شوقِها

 ومن زهرِ الفراشاتِ حنّاءَ أعراسِها”. المرجع السابق. (18)

بعد قتل سبارتاكوس وصلبه، استمرت الثورة عبر السنوات، والتي قادها في إحدى الفترات ابن سبارتاكوس الذي قاتل حتى قتل.

      يسقط الشاعر رمز الثورة سبارتاكوس على الواقع الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني يرزح تحت احتلال غاشم لا يقل قسوة وجبروتا عن روما، يستحضر سبارتاكوس ليقول لنا إن الثورة الفلسطينية ستستمر، وإن خبت في أوقات فأنها ستعود أقوى، والشاعر يتماهى مع سبارتاكوس، ويقول كما قال: “يجب أن تحطم روما –أنت يا سبارتاكوس يجب أن تقود هؤلاء الناس، وأن تكون شديدا وقويا معهم- عليك أن تعلمهم القتال والقتل. لا نكوص ولا تراجع. ولا خطوة واحدة إلى الوراء”. (19)

فإذا كان العالم كله يتبع روما، فإنه الآن يتبع الاحتلال ويمده بكل ما يلزم لسحق وتدمير الشعب الفلسطيني، وإذا كان لا بد من تحطيم روما، فإننا الآن أحوج لتحطيم الاحتلال وأصنامه، علينا أن ندمر ما يؤمن به العالم الظالم، لنبني في روما –فلسطين- حياة جديدة يعيش فيها الناس كل الناس في سلام وأخوه.

في القصيدة يطالب سبارتاكوس من يأتي خلفه بإكمال الثورة، لنيل الحرية، وذلك باستغلال صباحات شهر نيسان الندية لعجن رغيف الحرية من ربيع فلسطين، واستخراج عبق الفراشات لنثر الحب والسلام على الأرض المجروحة والمنسية. وسيبقى الشاعر والشعب الفلسطيني يرددون ما صرخ به سبارتاكوس ورفاقه عند الصلب: “سأبعث من جديد وسأصبح ملايين”. (20)

فسبارتاكوس رمز لمقاومة الشعب التي يعاني من الظلم والاستبداد، وذكراه خالده وتشع في قلوب الناس البسطاء والثائرين، بينما الاقطاعي والمجرم والمستبد في حاويات التاريخ، وسيبقى ملعونا أبد الدهر.

 

الرمز الديني

       يعاني الإنسان العربي من الاغتراب نتيجة الأوضاع الصعبة التي يرزح تحتها، وشعوره بالعجز على تغيّرها، والشاعر خاصة يفترسه الاغتراب، فالتعامل مع الاغتراب يختلف من شخص إلى آخر، فهناك من يستسلم ويستكين له، وهناك من يقبل به ظاهريا ويرفضه بداخله، وهناك من يقاومه ويحاول الانتصار عليه وكسره.

وعند النظر إلى شعر الشاعر العربي المعاصر، “سنجد أنّ انعكاس الاغتراب عليه بات طرديًا مع تعقيد الحياة وتعفّن أوضاع المجتمع، فالشاعر أسرع من غيره إلى الإصابة بهذا الداء لأنه يتمتع بقدر عال من الحساسية والتوتر والرهافة، ولهذا فقد عاش في اغتراب مركب لأنه “إنسان جمعي يستطيع أن ينقل ويشكل اللاشعور أو الحياة الروحية للنوع البشري” مثلما يقول يونج”. (21)

والاغتراب قاد الشعراء إلى التماهي ومحاكاة الرومانسية التي وجدت الراحة في الليل، والبعد عن المدنية، والشوق إلى العيش في القرية أو في كوخ على قمة الجبل، كما تغنى الشعراء بالوجع، وثملوا مع الحزن.

وفي شعر العطاري نجد الكثير من العلامات الدّالة على اغتراب الشاعر، وحتى بعض عناوين الديوان تشي بذلك، في قصيدة “إلى منفيٍ” يقول:

“ارحلْ

وابحثْ في منفاكَ عن غارِ حراءَ

ويمامتينِ وخيوطِ عنكبوت

عشْ مقفولاً/ واحذر أنْ تتحدثَ في تيهِكَ

 عن ذاتِ الأرضِ/ عن الطّهْرِ “. عبد السلام العطاري. (22)

في القصيدة التي جاءت على شكل رسالة لشخص منفي خارج وطنه، يستخدم الشاعر الرمز الديني من أجل الوصول إلى الفكرة التي يعبر عنها، ويشبع المنفي في رحلته المجبر عليها برحلة الرسول الكريم محمد(ص) عندما خرج من مكة إلى المدنية، ففي البداية أحس الرسول  عليه السّلام بالاغتراب عن مجتمعه الجاهلي الذي يبيح القتل والسرقة والظلم، فلجأ إلى غار حراء يتعبد ويفكر في تغير الوضع السيء إلى وضع أقل حدة، والسعي لتحقيق العدالة والأمن للجميع، إلا أنه ووجه بالعنف والقوة من قبل سكان مكة مما اضطره إلى الرحيل إلى المدنية المنورة، ولقد طارد فرسان  قريش الرسول عليه السّلام  وصاحبه أبو بكر، وبعناية الله نجا بعد أن اختبىء في غار ثور، حيث أرسل الله سبحانه وتعالى حمامتين، بنتا عشهما على مدخل الغار، وعنكبوت نسج خيوطه عليه، مما أقنع فرسان قريش باستحالة وجود الرسول عليه السّلام في الغار فلم يقتحموه، وذهبوا إلى مكان آخر للبحث عنه. وفي القصيدة يطالب الشاعر من الإنسان المنفي البحث في ذاته في عزلة طويلة ليصل إلى الحقائق التي تؤرقه، وتحطم قلبه، إذ في كل واحد منا رسول ومنفيّ.

ويتابع القول:

“عن العذراءِ/ فيثيرَ حديثُك عاهراتِ المدنِ

 وتعوَّدْ عشقاً لا يخلقُ عُنفاً

 وضاجعْ ساقطاتِ العواصمِ/

 لتعرفَ أنَّ للحبِّ معانيَ أُخَرْ/

 فلا بأسَ إنْ مرَّ الغرباءُ على جسدِ حبيبتِكَ

 أو أقاموا قليلاً

 لا فرقَ في زمنِ التعايشِ والسّلام…!!”.  (23)

 يحذر الشاعر المنفي من الحديث عن أرضه الطاهرة، لأن لا أحد سيسمعه، ولن يكترث أحد لآمه، يقول له خض في حياة المدن المدنسة، وضاجع العاهرات فيها، ففي هذه التجارب ستقدر أن تضع أصبعك على مكان الألم، وستعرف أنه في زمن الاستسلام سيكون من العادي أن يطء الغرباء جسد حبيبتك (فلسطين)، لذا ليس أمامك إلا الثورة على الاغتراب المفترس، وقيم الحضارة الجديدة التي تبيح اغتصاب البشر والشجر إذا قدرَ الطغاة على ذلك.

 

الرمز التاريخي

      تتنوع الرموز في الديوان، ومن الرموز التاريخية يجمع الشاعر بين الثائر الأممي جيفارا الذي قتل وهو يحارب الطغيان والاستعمار والحسين حفيد الرسول الكريم الذي ثار هو الآخر ضد الاستبداد والظلم وقاتل بشراسة خلدته في قلوب الناس المظلومين حتى قتل.

يقول في قصيدة”في حب جيفارا والحسين”:

“سوف أحترفُ الغناءَ يومًا

وأنشدُ في الأعراس

…. يا بلادي

وأغنّي للسارحات فجرًا

أغنياتِ الحصاد والرُّعاة

وأراقصُ البيدرَ

وصليبةَ القمح

والفقراءَ العراة

وأُلبسُهم من عُري الطّهر

… جسدًا”. (24)

سيحترف الغناء ويغنّي في الأعراس وفي الساحات لجميلات القرية الباسمات والعاملات بالفجر، وسيرقص في حضن البيادر والحقول ويراقص الفلاحين الفقراء، ولا يخفى على القارىء أن الغناء والرقص هنا رمزٌ للثورة التي ستطهر جسد البسطاء، وتجعلهم يصرخون بوجه الظلم :

“ليرفعوا بوجهِ الكون

أقدامَ الحفاة

وأرسمُ على جبهة

الشمس …أسماءَهم

اسمًا… اسمًا”. (25)

وسيقوم شاعرنا برسم أسماء كل الفقراء على قرص الشمس ولن ينسى أحداً، وسيعلن عندما تحين الساعة المناسبة عن موعد انطلاق الثورة:

“وأعلنُ عن قيامِ الساعة

وجيفارا على بيدر الحريّة

يؤمُّ الصلاة

يتلو علينا آياتِ الحسين

وقصائدَ الشعراءِ الرماة”. (26)

الثورة التي تجمع جيفارا والحسين، الثورة التي لا تعرف التمييز بين البشر، ولا تفرق بينهم فهي تحشد كل الفقراء والمستعبدين في العالم ليكونوا يدًا واحدة ضد الظلم الذي مهما كانت جنسية القائم به، فإنه حَرِيا بالبشر الثورة عليه ودحره، لذا نرى جيفارا بالقصيدة يتبنى أفكار الحسين الثورية رغم مرور آلاف السنوات، ورغم المسافة الحقيقة التي تفصل بينهم، ففي النهاية الفقراء ذي أصل واحد، والطغاه يشربون من السطل نفسه.

 

الرمز المستقى من الطبيعة

    يرفل الديوان بأثواب الزهور المتنوعة، ويجد القارئ نفسه في بساتينها، وقد يجد صعوبة في معرفة بعض النباتات. كما يمتلئ الديوان بالطيور المغردة، يقول الشاعر في قصيدة “رَقْصَةُ البّر”:

“سَوْفَ أَرْبَحُ الوَقْتَ يَوْماً ..

وَأَعُودُ إِلَى المَرْعَى، بِمَاشِيَتِي

هُنَاكَ الطَّيُونُ… وَالزَّعْتَرُ …والسَّرِّيس

وَسَنَابِل تَسْتَحِمُّ  فِي حَوْضِ النَّدَى

هُنَاكَ أُمِّي وَأَبِي وَعَرَقُ الطَّرِيقِ..

 هُنَاكَ رَائِحَةُ الحَصَادِ وَأَصْوَاتُ المَنَاجِلِ

هُنَاكَ الحَنِينُ يَرِنُّ كُلَّمَا تَقَافَزَتِ الظِّبَاءُ العَاشِقَةُ لِبّرِّهَا

هُنَاكَ نَايِي أُقَبِّلُهُ”

“وَأُرَاقِصُ الحَجَلَ

وَتُرَاقِصُنِي أَشْجَارُ الزّيتُونِ

كُلَّمَا اهْتَزّتْ وَتَسَاقَطَ حُبُّهَا وَحَبُّهَا. (27)

فهذا الإنسان المنفي والذي يعاني من الإغتراب والغربة والقهر، لا بد أن يأتي الوقت الذي يتخلص به من كل انواع الاستبداد، ليعود إلى أرضه ويستمتع بما حرم منه من جمال وسحر، حيث رائحة الطّيون والزعتر وسنابل القمح، يرجع إلى بيته القديم ليجد حضن أمه ووالده يرتمي على صدريهما يحاول أن يشرب قدر ما يستطيع من حنانهما الذي مُنِعَ عنه، سيعود إلى أرضه يتقافز فرحا مع الظّباء المغرمة، وأشجار الزيتون البهية تتمايل وتهتز طربا لرؤيته، وسيمسك بيد الحجل ويحلق في سماء أرضه وكل شيء من حوله يرقص ويغني، يتابع الشاعر:

“وَالبرُّ يُغَنِّي،..،

وَأَطْبَعُ عَلَى شَفَتَيْهِ دَنْدَنَةً

تَرْوِي حُنْجُرَتِي قِصَّتَهَا

تَرْوِينِي مِنْ ظَمَأِ الغُرْبَةِ وَالغَرِيْبِ

فَأَشْرَبُ رَقْصَةَ البَرِّ وَأَنْسِجُ حِكَايَتِي

كَيْ لا أَنْضَب”. (28)

فسنابل القمح الذهبية كشلال ماء تغرقه بالمحبة واللّذة، يعوض ما خسره خلال سنوات طويلة، ولا شك أن النباتات والطيور توحي بالحرية والأمل والأمان والقدرة على تحقيق المستحيل ولاستمرار.

يسكن الحزن الحياة، وتعجنها المرارة، وفجأة يظهر البرق، “فجأة ينفتح الشعر على حدود الخطر. وفي الإقامة على هذه الحدود يصبح البحث سؤالا ويكشف الشعر عن ضرورته. في أهوال الطريق يتصاحب الشاعر والصّوفيّ، وفي وجهة الشّعر يفترقان”. (29)

فالشعر لا يمكن له أن يكون إضافة إلى الشهادة، “بل الشهادة شعريا على تجربة العبور من زمن إلى زمن، على الانتقال من لغة لا تُسمِّي إلى لغة تُسَمِّي”. (30)

يكتب العطاري كفلسطيني وهذا يعطي لمشروع البحث والسؤال والاختيار حالة فريدة لا تشبه غيرها.

والشاعر الأصيل لا يمكن له أن يكون مبدعًا ومميزًا ما لم يتبلل بتراثه، ويؤثر على حياته الجديدة بلا شعور…فالشعر لا يعيش على الحاضر فقط، بل يتوغل في الماضي إلى تراث الأمة وأصالتها، والأدب والشعر جزء لا يتجزأ من تراث الأمة، ولا شك أنّ عواطف الإنسان تتشكل عبر التاريخ البعيد.

يقول اليوت: “إن التراث لا يمكن أن يورث ومن أراده يجب أن يبذل جهدا وعناء كبيرين. فهو يتضمن بالدرجة الأولى الحس التاريخي الذي لا غناء عنه لأي شخص يكون شاعرا…”. (31)

واشترط اليوت ليكون الشاعر متفوقا “أن يكون صاحب تراث وحداثة في الوقت نفسه واعيا بما في الزمان والمكان…وهذا الإحساس التراثي هو الذي يظهر الشاعر تقليديا في الوقت ذاته لأنه يعي موقعه في جيله”. (32) ويتساءل اليوت: كيف يمكن “أن نقيم شعرنا المعاصر وحده، دون أن نقارنه بالأعمال الفنية المبتكرة الماضية، والمستفيد منها عند ابتكار عمل فني”. (33)

والشاعر عبد السلام العطاري من الشعراء الفلسطينيين خاصة والعرب عامة الذين اهتّموا بالتراث العربي  والإسلامي والعالمي، ويزخر شعره بالأماكن الحميمية، وكل ما في الطبيعة من جمال وسحر.

 

………….

 

الهوامش

1- محمد بنيس. كتابة المحو. الدار البيضاء: منشورات دار توبقال للنشر. ط1. 1994م. من مقدمة الكتاب. ص 8.

2- يوسف عزّ الدين. التجديد في الشعر الحديث. دمشق: منشورات دار المدى للثقافة والنشر. ط2. 2007م. ص 43-42.

3- المرجع السابق. ص 48.

4- محمد بنيس. مرجع سابق. ص 14.

5- المرجع السابق. ص 19.

6- عبد السلام العطاري. عرّاب الريح. عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع. ط1. 2013م. ص 22.

7- باربارا باومان، وبريجيتا أوبرله. عصور الأدب الألماني. ترجمة: هبة شريف. الكويت: منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة، العدد 278. فبراير 2002م. ص 229.

8- عبد العزيز حمودة. الخروج من التيه. الكويت: منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة. العدد 298. نوفمبر 2003م. ص 342.

9- المرجع السابق. ص 345.

10- المرجع السابق. 345.

11- المرجع السابق. 345.

12- عبد الرحمن محمد القعود. الإبهام في شعر الحداثة. الكويت: منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب. سلسلة عالم المعرفة. العدد 279. مارس 2002م. ص 100.

13- المرجع السابق. ص 48.

14- المرجع السابق. ص 48.

15- ويكيبيديا. https://ar.wikipedia.org/wiki.

16- عبد السلام العطاري. مرجع سابق. ص 75

17- ويكيبيديا. https://ar.wikipedia.org/wiki.

18- عبد السلام العطاري. مصدر سابق. ص 75-76.

19- هوارد فاست. سبارتا كوس، ثورة العبيد. الجزء الأول. ترجمة أنور المشرى. القاهرة: دار الكرنك للنشر والطبع والتوزيع. دون تاريخ. ص 292.

20- المرجع السابق. ص 19.

21- محمد راضي جعفر. الاغتراب في الشعر العراقي المعاصر. موقع شذرات http://www.shatharat.net . من مقدمة الكتاب.

22- عبد السلام العطاري. مصدر سابق. ص 81.

23- المصدر السابق. ص 81.

24- المصدر السابق. ص 72.

24- المصدر السابق. ص 72.

26- المصدر السابق. ص 73.

27- المصدر السابق. ص 103.

28- المصدر السابق. ص 103-104..

29- محمد بنيس. مرجع سابق. ص 20.

30- المرجع السابق. ص 21.

31- يوسف عزّ الدين. مرجع سابق. ص 49.

32- المرجع السابق. ص 50.

33- المرجع السابق. ص 50.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى