استقراء ثناء لقصيدة ( لولا الحياءُ جريرٌ زار زوجتَهُ ) لأشرف حشيش

الناقدة والشاعرة ثناء حاج صالح / ألمانيا

القصيدة ( لولا الحياءُ جريرٌ زار زوجتَهُ) :

لولا الحياءُ جريرٌ زار زوجتَهُ

تبا لزوجٍ يخافُ الناسَ مَنْ كانا

 

مِن أجبنِ الشعرِ أن تخفى مشاعرُنا

وأن نخافَ دموعَ البوحِ أحيانا

 

‏( ريمٌ على القاع ) ما عادت لقافيتي

إلا وثار فؤادُ القاعِ أحزانا

 

وما يزالُ جريرٌ بعد غربتِهِ

يبكي هناك على الريّان ريّانا

 

ماذا تفيد على الريّان وقفتنا

إن كانت القدس تلقى الموتَ ألوانا؟!

 

لولاك ما انفعلت كالشوق أغنيتي

تزهو وتعزف بالأرواح ألحانا

 

(يا حبذا )الكرمل المذبوح في لغتي

يعودُ حيا بحضن الضاد يلقانا

 

لمّا وقفتُ على عينيَّ أرقبُهُ

يا ويح قلبي ، لماذا الشعرُ قد خانا؟!

 

سأتركُ الآن قولَ الشعرِ مُعتذرا

لكل قلبٍ بكى في الشعر أوطانا

 

وأستردُّ من الأحزان ما أخذت

من نبع روحي تفاعيلا وأوزانا

 

القراءة النقدية:

يخوض الشاعر أشرف حشيش في أثناء تشكيله البناء الفني لهذه القصيدة وعبراستحضاره بعضا من الإرث الشعري ومحاورته، مغامرة التوازن الصعب بين التمرد الثوري على نهج فكري موجود في بعض ذلك الإرث وهو رافض له وبين محاولة التماهي مع ذلك الجزء المرفوض عبر تطويعه وتعديله  كي يستنبط منه بدائل فنية لأفكاره الشعرية المعاصرة التي تصب في النهاية في مجرى الشعر الفلسطيني المقاوم.

هو توازن صعب؛ لأن هذه المحاورة الثائرة في القصيدة تأخذ منحى المعارضات الشعرية لقصائد شهيرة جدا لم يفكر أحد من قبل الشاعر أشرف حشيش بمعارضتها. ولكن الشاعر استطاع ببراعته الفنية أن يؤثث له سياقا دراماتيكيا متصاعدا يحتويه ويسايره وصولا إلى موقف نهائي في خاتمة القصيدة يعلن فيه الشاعر عن موقفه الشخصي غير المتوقع من الشعر.

ثلاثة مواقف نفسية شعرية من ثلاث قصائد قديمة يصهرها الشاعر في بوتقة قصيدته لتتداخل عناصرها ثم تظهر للقارئ واضحة كخيوط لامعة في نسيج في قصيدته. قصيدتان منها لجرير وواحدة (نهج البردة)لأحمد شوقي . فأما قصيدتا جرير فالأولى رائيَّته الشهيرة التي رثي فيها زوجته خالدة ومطلعها:

لولا الحياء لهاجني استعبار

ولزرت قبرك والحبيب يزار

ونلاحظ أنه في الوقت الذي جعل فيها الشاعر عنوان قصيدته معارضة لمطلع رائية جرير فإنه سلك فيها عبر وزنها وقافيتها ومعظم ألفاظها مسلك المعارضة لقصيدة جرير الأخرى  ( بان الخليط ) والتي يقول في مطلعها!

بان الخليط ولو طوعت ما بانا

وقطعوا من حبال الصرم أقرانا
والتي يقول فيها
حي المنازل اذ لا نبتغي بدلا

 بالدار دار ولا الجيران جيرانا

وقد بدأ الشاعر أشرف حشيش بتوجيه سهام نقده الحادة وبحركة ماهرة عبر عنوان قصيدته الهجومي الذي جاء بمفاجأة مباغِتة للقارئ (لولا الحياء جرير زار زوجته)، وعبرأول بيتين منها:

لولا الحياءُ جريرٌ زار زوجتَهُ
تبا لزوجٍ يخافُ الناسَ مَنْ كانا

مِن أجبنِ الشعرِ أن تخفى مشاعرُنا
وأن نخافَ دموعَ البوحِ أحيانا

مع حدة هذه المعارضة المعاصرة لعجز مطلع رائيَّة جرير (ولزرت قبرك والحبيب يزار).  لا تخفى قيمتها التاريخية؛ فخلال ثلاثة عشر قرنا كان النقاد الاجتماعيون يستشهدون بهذا البيت للاستدلال على جرأة جرير في كسر العادات والأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة في العصر الأموي، والتي كانت تمنع الرجل من أن يبكي زوجته أمام الآخرين أو يرثيها أو يذكر محاسنها. لذلك عُدَّ رثاء جرير لزوجته خلال قرون عدة مبادرة منه بمخالفة ما هو سائد من أعراف وعادات مجتمعه في العصرالأموي . ولقد وثَقت الكتب ردود فعل المجتمع على هذه المخالفة ، ومن أبرز ما ورد في ذلك موقف الفرزدق الذي عَيَّر جريراً برثائه ذاك  وسماه ( فضيحة)  في قصيدة من نقائضه مع جرير يقول في بعضها :

إن الزيارة في الحيـاة ولا أرى= ميتا إذا دخل القبور يزار

إلى أن يقول

ورثيتها وفضحتها في قبرها … ما مثل ذلك تفعل الأخيار

وأهمية الرؤية الجديدة تاريخياً في معارضة الشاعر أشرف حشيش لذلك البيت أنها تقدم لنا تحليلا أكثر التصاقا بالقيمة العاطفية الإنسانية المطلقة والمجردة عن تأثير الشروط المجتمعية وظروفها التاريخية . لذلك هو يخالف النقاد في قصيدته هذه ويحكم على جرير بالجبن وليس بالشجاعة. لأنه يرى أن السبب الحقيقي لعدم زيارة جرير قبر زوجته بسبب الخوف من ألسنة الناس إنما هو (الجبن) النفسي عند جرير . وهذا التقييم الإنساني المجرد يفتح المجال للشاعر أشرف حشيش ليتعامل في قصيدته مع الإرث الشعري لجرير من منطلق ثوري ناقد يرفض فيه أشرف  قبول عذر جرير، كما يرفض تبرير الخطأ بحجج غير مقنعة لا تتلاءم مع الروح الحرة التي تأبى الخضوع والتنازل عن الحق حرصاً على إرضاء المجتمع الظالم. فلذلك نلاحظ عنف الحكم عندما يستخدم لفظة ( تبا) ” يقول:

تبا لزوجٍ يخافُ الناسَ مَنْ كانا”

وبحجم الغضب المشحون في لفظة(تبَاً) نستشعر مستوى الاحتقان والضغط النفسي الذي يفتح للشاعر مدخلا لتعميم موقف الرفض ليشمل رفض الأعذار الأخرى التي يأتي بها العرب المعاصرون والتي يبررون فيها تخاذلهم عن نصرة القدس. ولكننا لن نصل إلى هذه النتيجة إلا بعد أن يمرَّ الشاعر على قصيدة (نهج البردة) لأحمد شوقي متكئاً على الدلالة المجازية الواسعة للفظة ( القاع ) في تعميم رؤيته القرائية للشعر الذي لا بد وأن يستدرجه أشرف إلى المحاسبة والمساءلة عن دوره الثوري.

ريم على القاع بين البان والعلم  *  أحل سفك دمي في الأشهر الحرم

 

أحمد شوقي كتب قصيدة نهج البردة متبعا خطى البوصيري في بُردته في مدح النبي عليه الصلاة والسلام ، وأشرف لا يريد أن يثور على تلك القصيدة لأنه ليس ضدها . وإنما هو يجد فيها ما يلهم ثورته على الشعر.

 يقول أشرف حشيش:

‏( ريمٌ على القاع ) ما عادت لقافيتي
إلا وثار فؤادُ القاعِ أحزانا

فالثورة الآن هي ثورة فؤاد القاع/ الأرض ، وفؤاد الأرض يثور حزنا لأن ( ريم على القاع ) تذكر شاعرنا بتخاذل من هم على القاع/ الأرض وتخليهم عن القاع/ الأرض.

فنجد أن الشاعر قد وظَف جملة ( ريم على القاع ) في موضعها من قصيدته لتكون صلة وصل بين ثورته على موقف جرير القديم ( الجبان إنسانيا) وبين الموقف الحديث لجرير والذي يرى فيه أشرف رمزاً  للتنصل واللاإنتماء

. يقول أشرف حشيش:

وما يزالُ جريرٌ بعد غربتِهِ
يبكي هناك على الريّان ريّانا

 

الفعل الناقص ( ما يزال ) مراد به التدليل على استمرارية الاغتراب المعاصر للشعر( بعد غربته ) أي بعد أن أصبح غريبا وليس قبل ذلك. ولهذا سيعيد أشرف تصوير مشهد جرير الذي تغنى سابقا بحبه لجبل الريَّان فيجعل بكاءه على الريان غير ذي فائدة ما دامت القدس تواجه الموت ألوانا .

ماذا تفيد على الريّان وقفتنا
إن كانت القدس تلقى الموتَ ألوانا؟

فجرير يطلَّ الآن بشخصيته المعاصرة مغتربا عن قضايا وطنه كما كان جرير القديم مغتربا عن إنسانيته.

وأما موقف جرير الحقيقي من جبل الريان فليس بالموقف الذي يؤخذ عليه لأن تعلقه بالجبل يدلُّ حقيقة على ما يتصل بما ينادي به أشرف حشيش من حب الأوطان . يقول جرير:

يا حبذا جبل الريان من جبل

وحبذا ساكن الريان من كانا

وحبذا نفحاتٌ من يمانيةٍ

تأتيك من قبل الريان أحيانا

فهل سيدفعنا هذا للاستنتاج وهذا الموقف الناقد لجرير بأن الشاعر أشرف حشيش قد ناصب جريرا القديم  العداء في كل مواقفه الشعرية ؟ بالطبع لا.  لإن الإسقاط  الفني المعقد الذي يمارسه الشاعر أشرف يلزِمنا بقراءة أشرف محاوراً  لجرير المعاصر وليس لجرير القديم على الرغم من أن النص نفسه قديم.

تعمَّد الشاعر أشرف حشيش أن يضع جريرا في قضيته الذاتية مع جبل الريان على طرف نقيض منه هو كشاعر للمقاومة في قضيته مع جبل الكرمل . وهذه هي بالضبط المقابلة التي أتى بها أشرف ضمن سياق فني أراد من خلاله كشف  خفايا أسباب موقفه المعارض لجرير فلذلك قال في ذلك السياق :

لولاك ما انفعلت كالشوق أغنيتي
تزهو وتعزف بالأرواح ألحانا

فهو يعترف في هذه اللحظة بأن انفعال أغنيته / قصيدته انفعال الشوق إنما هو نابع من ( فلسطين/ القدس) التي تزهو وحدها وتعزف بالأرواح ألحانا هو يكتبها .

حرف الجر (الباء) الذي استخدمه الشاعر قبل اسم الأرواح (بالأروح) يؤدي وظيفة دلالية مزدوجة؛ فهو يأتي بمعنى ( في ) ليدل على المكان. كما أنه يأتي بمعنى (بوساطة ) ليدل على الأداة . ويمكننا أن نفهم منه أن العزف يتم في الارواح أو داخلها، أو يتم بوساطتها عبر التحكم بها . وفي كل الأحوال فإن هذا التأثير في الأرواح أو التحكم بها يؤدي بنا إلى فهم المغزى مما يفعله أشرف حينما يكتب الشعر المقاوم ليؤثر ويغيِر، وهو ما يجعلنا نفهم سبب احلال جبل الكرمل محل جبل الريان في بيت جرير من قبل أشرف عندما يقول:

(يا حبذا )الكرمل المذبوح في لغتي
يعودُ حيا بحضن الضاد يلقانا

إنه يرد على رؤية جرير المعاصر المحدودة ليفحمه ويشعره بضآلته وتقصيره كونه يعتنق في حبه ( للجبل) وبكائه عليه  قضية ذاتية مغلقة منعته من التواصل والتفاعل مع جبل الكرمل.

وأشرف حشيش يعلق كل آماله على (الكرمل المذبوح ) في لغته الشعرية كي يعود حياً فيوحد العرب ويجمعهم على نصرته وتخليصه من الذبح.

وهكذا فإنه يقف على عينيه (لا على قدميه) لأن التأمل والنظر إلى المأمول هو سيِّد الموقف في الرؤية المتفائلة ، ولكنهما تأمل ونظر لا يعودان إلا بالخيبة والتشاؤم والشعور بخيانة الشعر أو تخاذله وتخليه عن الكرمل المذبوح.

لمّا وقفتُ على عينيَّ أرقبهُ
يا ويح قلبي ، لماذا الشعرُ قد خانا؟

 يخونه الشعر لعدم وجود لغة شعرية يمكن لها أن تستوعبه ، فسيستقيل الشاعر أو يتوقف عن قول الشعر ثورة على الشعر نفسه، دون أن ينسى الاعتذار لقلوب من هم مثله من الشعراء الذين يكتبون الشعر ليبكوا الأوطان.

سأتركُ الآن قولَ الشعرِ مُعتذرا
لكل قلبٍ بكى في الشعر أوطانا

وأستردُّ من الأحزان ما أخذت
من نبع روحي تفاعيلا وأوزانا

 

وهو في توقفه عن قول الشعر يعلن نوعا من الإضراب الثوري على الشعر وقائليه لأنه يريد أيضا أن يستعيد ويسترد ما أخذته الأحزان من التفاعيل والأوزان التي كانت تنبع من روحه . وكأنه يخبرنا بأن الشعر لم يكن سوى ما تسبب به من أحزان رافقت عملية كتابته. ذلك لأن الواقع عقيم إلى درجة عدم قدرة الشعر على التأثير فيه أو تغييره.

وبهذا يختم الشاعر ما بدأه من ثورة على موقف جرير الذي أخفى مشاعره وكبتها بموقف شبيه ينوي هو نفسه  أن يفعله  مع اختلاف الدوافع النفسية بينه وبين جرير المعاصر نتيجة ثورته على الشعر غير المجدي سوى بالتسبب بالأحزان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى