الجمال فن و أخلاق

دكتورة هيام الفرشيشي كاتبة وناقدة تونسية

الجمال فن وأخلاق، الجمال كلمة تحمل دلالات عديدة، وتشير إلى معان متعددة. وكل هذه الدلالات والمعاني تخلق الانسجام النفسي وتبلور الفتنة بالحياة وجدواها، فالجمال فتنة وجدوى. والجمال ينقسم إلى روحي وآخر مادي، فالجمال الروحي حالة باطنية عميقة تعبر عن الراحة والسكينة وعن تبدد التوتر وإبصار عناصر العالم من رؤية جميلة… فتكون النفس كالسماء الزرقاء، وقد انقشعت عنها سحب القلق والحيرة… فهذا الإحساس الجميل يعبر عن تطهر الإنسان من مؤثرات الحياة السلبية وتطهره من الأحقاد والشرور فصار سليم الذمة، متحررا من العقد، فلا يفعل إلا ما يمليه عليه ضميره، فهو صاحب خلق جميل وقوة باطنية تتغلب على آليات عقله الباطن المهدمة.. الجمال إذن مقدرة على مقاومة النفس التي تأمر بالقبح، فهو يقترن بالفضيلة وعذرية المشاعر التي لم تلوثها تفاصيل الحياة المادية. وهو يؤسس لذات متماسكة تستمد خطواتها وعزمها من ثقتها بنفسها. فتلك الذات زرعت، فصارت خصبة ومثمرة ومتزايدة العطاء. وهو يستأصل كل آلية تجرد الإنسان من الإحساس الفني. فالجمال فن لأنه يحمل الذات إلى مواطن بديعة تفتح قريحته، فتتصور وتنفعل بعناصر الحياة الجميلة وتعبر، بهذه الحالة تحس النفس أن وجودها نعمة وليس نقمة، وتؤسس لمقولة: “الجمال إحساس أو لا يكون” …. أما الجمال المادي فهو منحوت على صفحات الطبيعة وسطورها. هو يعلن عن نفسه دون مشقة أو أقنعة أو مساحيق. فهو معبر بذاته عن ذاته. والعين تبصره بوضوح، والنفس تتوق إلى جوهره ….
يقول لورانس: ” الروح الإنسانية تشتاق إلى الجمال الحقيقي وتحتاجه أكثر من شعورها بالحاجة للخبز “
الجمال جبلة في الإنسان ما دام يمتلك عاطفة …. فقلب الإنسان منير وجميل وهو مركز الجمال ونواة النور .. يشع في النفس فتضحى مطمئنة، ترنو إلى الرقي الروحي وتتغنى بكلمات الحب والأمل فيكبر في الأنسان حلم الآتي المشرق رغم وهموم الحياة، إذ يستحيل هذا القلب إلى نافورة الحياة العذبة… كيف لا وهو القلب الموسيقي الذي يعزف “أغاني الحياة” ويهز خلجات النفس عبر ايقاع الشعر … ويتغنى بالحرية والآتي … والعاطفة متى تجلت تجعل الإنسان يحس بمعنى الحياة ونكهة الوجود السعيد فيتذوق الحياة بقلبه ولا يجدها رتيبة أو مظلمة..
الجمال إحساس يتركب من صور وخيال، ويعبر هذا الإحساس عن رغبة في تجاوز الواقع. فصور الواقع الخارجي مركبة تركيبا موضوعيا، خارجا عن ترتيب الذات الخاصة وتنسيقها، لذلك فهي تبدو غير مريحة ومملة، لا تشعر الذات بالجمال الحقيقي ولا تستحوذ على العاطفة. والفنان خاصة ينبذ هذه الصور لأنها تخلو من كل عمق وكل ضوء ومن كل روح فنية جميلة، فهي لا تمثل سوى غشاء لأعماقه وستار سميك يشعره بالاختناق، فينسلخ الخيال عن الواقع المجمل بالأصباغ والمساحيق وجماله الاصطناعي، ويتخيل صورا جميلة تجعله يعيش بأريحية ويحس بجدوى حياته، فهو لا يوجد إلا بذلك الإحساس الجمالي.
الواقع مر، والتخلص من الشعور بالمرارة يترتب عليه العودة إلى عناصر النفس وإعادة خلقها بصور منسجمة. وبذلك يكبر الأمل في تغيير الصور المجحفة لأنها تبلور ديكورا غير مريح بألوانه وتركيبه، ويحلم الفنان أن يرى الواقع على شاكلة صوره حين يتجه الخيال نحو عناصر النفس لإعادة صياغتها. فهذه النفس المشتقة سماتها من عناصر الواقع يعيد خلقها باطنيا ليشعر بالمعنى الحقيقي للأشياء، فيكبر الحلم. الحلم هو اللاوعي الخلاق الذي يبعث الجمال ويشيعه في النفس، كحالة داخلية تتعارض مع اللاوعي العقيم وحالة العقم النفسي.
والفنان الحقيقي هو الذي يفجر إحساسه الجمالي ويرسمه بحلمه، ففي الحلم يركب الإنسان أحداثا ويعيد بناء الصور والوقائع انطلاقا من تركيبته النفسية، فيطغى تركيب الصور تركيبا ذاتيا في حالة الانقطاع الجزئي، أما حلم الفنان فهو الذي يتبلور في حالة اليقظة، لأن ملكة التصور هي التي تكون بصدد بناء عالمه الداخلي، لتنجلي الذات عبر هذه الصور التي تمثل لغة العمق ورسومه وأشكاله. وهذه الصور تتجاوز الواقع إذ تعبر عن معاني الإنسان الكامنة فيه، وهي معاني الحياة والأمل والحب والسلام. هذه المعاني متى أدركها، أقصى القبح وتجاوزه نحو حالة نفسية صحية تجسد كل معاني الجمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى