قراءة في رواية الديوان الإسبارطي لـ”عبد الوهاب عيساوي”

جمال قيسي | ناقد وروائي وتشكيلي عراقي

التاريخ والوجع، ومناطق أخرى

هناك فعل رفض يعتمل نفسي لكل ما يثير الانتباه ، أو أي امر يلقى اهتمامًا بالغًا من الناس، أعرض عنه، مجمل الأشياء، وبالطبع تنسحب عندي مساحات أخرى ، هذه الحالة والتي أحسبها حالة مرضية وأسوأ مافيها انها تشمل قراءتي للكتب، أعزف عن قراءة كل عمل أدبي يشيد به الكثيرين ، لكن الفضول يحدو بي الى التلصص على هذا العمل، ولو بعد حين، وهكذا الحال. معي في الروايات التي تحصل على جوائز.

أنا لدي تحفظ على الأعمال التي فازت بالجوائز وبالذات الجوائز العربية ،لكني بعد انتهاء فورة الشهرة ،أعود وأقرأ هذه الأعمال بروية ، ولا أخفي سرًا اني أجد نفسي كنت محقًا لدرجة ما لعزوفي ، إذ لا جديد، مجرد انتحال توليفي ،لأعمال عالمية ، او تغريب لامبرر له لخطاب السرد ، طبعًا حدث معي نفس الشيء مع رواية ( الديوان الإسبارطي ) للجزائري عبد الوهاب عيساوي الفائزة بجائزة البوكر العربية ، قررت أن لا أقرأها الا بعد أن تخفت الفورة الإعلامية عنها، لكن ما حدث هو عكس رغبتي، إذ قرأت دراسة نقدية تناولت الديوان. الإسبارطي نشرت في جريدة الشرق الأوسط ل فاضل ثامر، طبعًا هو أستاذي وإن لم أحظ بشرف التلمذة على يديه، لكني من المتابعين بشغف. دراساته النقدية الرصينة أو الترجمات المهمة في النقد. وعلم السرد وقد أشاد بالرواية وأسلوبها حيث وصفها بأنها رواية بوليفونية (متعددة الأصوات)، ولكني حسبت في داخلي أن فاضل ثامر قد ذهب إلى ذلك مجاملة ، وبعد يومين قرأت دراسة ل موج يوسف عن الرواية ( الديوان الإسبارطي) قد نشرت في جريدة الصباح البغدادية ، لكن هذه الدراسة كانت على العكس من الأولى إذ نالت من الرواية واعتبرتها تفتقد الجوانب الفنية والجمالية بمعنى أنها لاتستحق الفوز بجائزة البوكر، هكذا تولد لدي فضول مشبوب بالتحدي لقراءة الرواية خاصة بعد أن أشار إلى الناشر صاحب دار أشور مطالباً برأيي عن دراسة موج يوسف، وبطبيعة الحال اعتذرت منه ، لأَنِّي لم أطلع على العمل وبسبب الحظر الكوروني ،سحبت نسخة الكترونية لرواية (الديوان الاسبارطي) وشرعت بقرائتها، طبعًا أنا علاقتي تتحدد مع أي كتاب باستثناء ( كتب الفلسفة ) من خلال اول عشرين صفحة أو ربما حتى أقل ، أما أن اكمل أو أترك ، ولأني من الجيل القديم يعتريني الملل والإزعاج من القراءة الالكترونية، ومع ذلك لم أشعر إلا وأنا قد تخطيت الصفحة ١٥٠ من الرواية ، والشمس في كبد السماء، لقد سحبني هذا الخطاب النثري الذي يشبه الأهزوجة الموجعة الإطناب البلاغي المقامي (نسبة الى اُسلوب المقامة البلاغي) ، ولم أستغرب هذا السحر البلاغي لأنه من مدرسة عبد الملك مرتاض، هذا المعلم الكبير في الأسلوب البلاغي والصارم في علميته الذي بدا تأثيره واضحًا كما هو الحال في اُسلوب واسيني الأعرج ،وفي جلسة حوارية طبعًا مع نفسي، آليت إلا أن أثير بعض الأسئلة المنهجية حول العمل  (الديوان الاسبارطي) لاتخذ مسربًا بين الرأيين السابقين، أو اعتماد أحدهما:
١- هل هي رواية بوليفونية او حتى فيوغ ؟ يمكن أن نعدها كذلك وممكن لا .
٢ – هل اُسلوب السرد ( منولوج داخلي) ؟ يمكن أن نعدها كذلك وممكن لا .
٣ – هل هي رواية تنتمي من المدرسة الجديدة بأسلوب تيار الوعي؟ أو على طريقة الآن روپ غريبه يمكن أن نعدها كذلك وممكن لا .
٤ – ما هي المفارقة الزمنية فيها والمنظور السردي وكيفية الاشتغال .
٥ – ماهي الإرسالية التي يتضمنها هذا الخطاب السردي (الديوان الاسبارطي) في الغاية النهائية أو الاستشراف أو الميتاسرد .
طبعًا أنا لا أتكلم الألغاز و الأحجيات ، لأَنِّي سأجيب عن كل هذه الأسئلة وساخلص إلى نتيجة ، ربما فاتني الكثير من الأسئلة المنهجية، لكني أردته موضوع يقرأ ، وكل مختص بالسرد يعرف مدى صعوبة وعسرة المصطلحات. السردية لذلك سأشرع بالإجابة على شكل فقرات وفي نهاية القراءة ، سأتناول التقنية الجديدة في السرد التي استخدمها عبد الوهاب عيساوي برائعته ( الديوان الاسبارطي ) .

١- هي رواية بوليفونية كما ذهب إلى ذلك فاضل ثامر، لأنها احتوت على خمسة أصوات للشخصيات الرئيسية ( ديبون / الصحفي الفرنسي المرافق لحملة احتلال الجزائر المؤمن بالمسيح ورسالته بصورة طهورية والرافض لنهج نابليون بونابرت العدواني وكذلك الملك لويس الثامن عشر من عائلة آلبوربون، كان في سريرته يتمنى تحرير الجزائر من الاحتلال العثماني السيء الصيت ، وهو يوضح موقفه صريحًا عندما يقول ؛” يتناقض النور مع لون الدم ، والسلاح مع الكلمة ، والمحبة مع الكراهية ” (١) لكن خيبته كانت كبيرة عندما تيقن من أطماع الحملة وسوء دخيلة كافيار والاستباحة الجائرة لسكان ” اسبارطة ” )
والثاني ( كافيار / الضابط السابق المشارك في معركة واترلو وأحد الرجال المؤمنين بقيادة نابليون بونابرت وعودته من منفاه لقيادة الجيش الفرنسي من جديد، وبعد جراحه البليغة في واترلو استطاع أن ينجو من الموت مع أنه كان يتمناه على مرارة الهزيمة ،وقد استطاع ان ينفذ الى البحر مع مجموعة من الصيادين ليقع اسيرًا لدى القراصنة الأتراك حسب ما كان يسميهم ،ويساق إلى السجن ويذوق المر يفقد أحد أصابعه، وكان الأمر أكثر مرارة عندما تم تحريره هو ومجموعة الغربيين في السجن كشرط للمفاوضات بين الأتراك والانجليز وهو يعتبر أن الأمر تم على يد ألد أعداء فرنسا ونابليون حسب اعتقاده أحد أدميرالات البحرية الانكليزية مما زاد في نفسه غل وحسرة وكراهية ومن خلال علاقته بالقنصل السويدي في إسبارطة (إسبرطة هي مدينة الجزائر كما يسميها كافيار ) التي توطدت أثناء سجنه ورعاية أصدقائه الغربيين له رفض أن يعود الى فرنسا لكي لايحتمل العار على أن تحريره قد تم على يد أعداء الأمس الخبر الذي أسر القنصل السويدي داعيًا إياه للإقامة في القنصلية، وقد حدث له أمرين في غاية الأهمية الأول عندما اخبره القنصل بوفاة نابليون في منفاه مما أشعل في داخله فورة من الغضب والتي انعكست في إحدى تصرفاته بضرب الفلاح المحلي الذي يعمل في القنصلية مما ادى الى موته وهذا الفلاح هو والد دوجة إحدى شخصيات الرواية الرئيسية والأمر الثاني لقائه مع القنصل الفرنسي والذي استطاع أن يغير وجهة نظره بعد تكليفه بإتمام الخرائط التي تدرس التفاصيل الطبوغرافية للأرض مع تواجد القبائل وعاداتهم ،،وكل التفاصيل الدقيقة مع خطة يضمر فيها القنصل الطريقة التي يقنع فيها ملك فرنسا بحملة بحرية واسعة لاحتلال الجزائر وهو الأمر الذي جعل من كافيار ان يدوس على جراحه ويعمل بهمة عالية، يكشف لنا ( عيساوي ) من خلال شخصية كافيار بشاعة الاحتلال الفرنسي والذي لا يقل بشاعة وجشعًا عن المحتل التركي .

والشخصية الثالثة ( ابن ميار ) وهو تاجر محلي من مدينة اسبارطة خسر تجارته وأملاكه بالتدريج مع أمثاله بسبب جشع واستغلال الأتراك او الفرنسيين لكنه ميال إلى العثمانيين بحكم الإسلام يحدوه الأمل. بأن الباشا وهو الحاكم العثماني ربما ينصفه ويعيد إليه ثروته بمطلق الأحوال الفرنسيين كفار عنده، ولكنه وطني برغم براغماتيته الإيجابية يحاول أن ينتزع الحقوق من خلال المفاوضات والتحالفات والولاء والتي أثبتت الوقائع فشل مساعيه، الأمر الذي جعله يحمل طلباته وعرائضه التي قدمها للباشا أو الحاكم الفرنسي إلى باريس من اجل لقاء الملك الذي ربما سينصفه .

الشخصية الرابعة ( حمه السلاوي ) ، رجل من عامة الشعب صاحب بنية قوية وصانع عرائس ومقاتل شرس وحاد الطباع ،الموقف لديه واضح جدًا ، يحاول بعروضه في المقاهي ، تعبئة الناس للدفاع عن بلدهم ، مع ضعف إيمانه بهمتهم مثلما يقول ” بعض المدن أفضل من أهلها ودائمًا كانت المحروسة اكبر من ساكنيها ” (٢) وفي موضع اخر يقول ” بالامس كان المغاربة مثل العبيد عند الأتراك ، ولم ينجبوا الا عبيدًا آخرين ، والآن سيولد أطفال عبيد للأوربيين “(٣) ، وحمه السلاوي هو الشخص المتوسط من عامة الشعب ، واقصد النموذج الرافض للاحتلال بأي شكل، وهو على علاقة جيدة مع ابن ميار مع اختلافهما الشديد بوجهات النظر، وكذلك حبه ل ( دوجة ) الشخصية الاخرى والتي ينتزعها من يد ( المزوار ) القواد ويودعها في بيت ابن ميار، بشكل عام هو شخصية تمثل الجيل الشاب المقاوم الرافض لرؤية الجيل الأكبر المهادن والقانع لحد الخنوع ، وفي احدى نقاشاته مع زوجة ابن ميار عندما تطلب منه الكف عن أسلوبه في الحياة بمحاربته الأتراك سابقًا والفرنسيين لاحقًا ،يقول لها ” كأنك تُعيدين كلام ابن ميار . لعجائز المحروسة ذوق واحد في تقديس الحكام ” (٤) .

الشخصية الخامسة ( دوجة ) وهي الفتاة ابنة المزارع الذي مات بعد ان ضربه ( كافيار ) في حديقة القنصل السويدي ، وكان والدها فلاحًا ترك الزراعة بعد بوار الأرض وتوقف المطر كإشارة رمزية لإهمال الزراعة جراء سوء الادارة التركية للمحروسة (الجزائر )، وقد ورد على لسان (دوجة) تعبير بليغ عن الصورة هذه ” ،،،ثم صارت لاتهب شيئًا . بارت ثم نفق الحصان واضطر أبي إلى ترك المحراث مغروسًا في الأرض حتى تيبست من حوله ” (٥) ، المهم بعد موت أبيها وأخيها المريض تداولتها الأيدي حتى وقعت بيد المزوار القواد القاسي والذي اغتصبها ومن ثم حولها للعمل ، لكنها تعلقت بحمه السلاوي الذي انتزعها بالقوة من يديه وأودعها عند ابن ميار .

طيب نعود إلى سؤالنا المنهجي: هل هي رواية بوليفونية، في الرواية المتعددة الأصوات. لا يستحسن أن تكون الأصوات فيها اكثر من ثلاثة شخصيات ساردة رئيسة، ولسبب بسيط انها ستربك القارئ، و الديوان الاسبارطي ، فيها خمسة و الرواية البوليفونية يجب أن يتحقق فيها المبدأ الحواري وفق ميخائيل باختين أو التناص كما تسميه جوليا كريستيفا ، أي بمعنى أن هناك أسلبة فكل شخصية لها لغتها وأسلوبها و أيديولوجيتها ، وهذا لم يتحقق في الديوان الإسبارطي؛ فصوت السارد واحد،،عند كل الشخصيات باستثناء. المحمول الايديولوجي لكن عبد الوهاب عيساوي تلافى هذه المشكلة باستخدام تقنية جديدة بالسرد وهو ما سنتكلم عنه في نهاية الدراسة .
في الإجابة عن بقية الأسئلة ، أقول إنها تمتاز بمنلوج داخلي طويل مع تطعيم بالوصف الأشياء والأمكنة وببراعة ولا يمكن عدها بانها تنتمي الى المدرسة الجديدة، لأن السارد في الشخصيات الخمسة ذاتي عليم ونستبعد اُسلوب تيار الوعي بسبب تعدد الأصوات، أما المفارقة الزمنية فقد تحققت بنجاح باهر بشقيها الاسترجاع والاستباق وكذلك المنظور السردي (السارد ،المسرود ،المسرود له) وهنا أشير الى التعامل اللافت لعبد الوهاب عيساوي لعتبة المسرود له فقد نجح ببراعة ، وهي من اصعب التقنيات التي تواجه الروائي ،اما الإرسالية التي أراد الراوي أن يوصلها للقارئ وعلى رأي كولن ولسون بأن الرواية كخطاب لابد من أن هناك شيء يقال ،وخلاصة الديوان الاسبارطي ان المستعمر واحد وقد بلغنا بها في بداية العمل، بعد أن سرق الأتراك الذهب والخيرات وجد الفرنسيون موردًا آخر الا وهو العظام لأموات المحروسة من أجل طحنها وتصنيعها كسكر وكم هي إرسالية موجعة تختصر كل تاريخ الشعوب التي ربض عليها المستعمر ،،

أخيرًا ولا اعتقد أني قد غطيت العمل بشكل كامل أتحدث عن التقنية السردية الجديدة التي اشتغل بها عبد الوهاب عسيري وهي تقنية جديدة على الأقل بالنسبة للأعمال العربية باستثناء أفراح القبة لنجيب محفوظ ، والتي تبدو محاولة بسيطة  هذه التقنية هي (vantage point) وترجمتها الإشراف على نقطة أو موقع التحكم الأفضل، وقد استخدمت لأول مرة في فيلم يحمل نفس الاسم من بطولة (ماثيو فوكس و فورست ثيكر و وليم هارت و ودينيس كوايد) المهم هناك ثمان شخصيات تتركز وجهة نظرها على مشهد واحد بحيث يعاد بنائه لكل شخصية، بهذه التقنية تعامل عسيري ، وهي لحظة الحملة الفرنسية على الجزائر وقد استطاع الروائي تخطي كل الإشكالات التي أثرناها سابقًا ، إلا أني كنت أتمنى عليه أن يزحف الأقسام. الأخيرة وجعلها ضمن الأقسام. الثلاثة. الأولى ، يبقى ان نقول إن جائزة البوكر العربية للمرة الأولى تمنح الجائزة لعمل يستحق الفوز والتقدير .

١- الرواية ،ص ٢٥٢
٢- الرواية ، ص ١٥٤
٣- الرواية ، ص ٢٢٢
٤- الرواية ، ص٢٢٣
٥- الرواية ، ص ١٥٨

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى