هل أخطأ سيبويه في حقيقة الإعراب

طاهر العلواني | كاتب مصري

أجمع عقلاء بني آدم على أن السكون نقيض الحركة، وأن الساكن لا يكون متحركا البتة، لا خلاف بينهم في ذلك، فالحركة والسكون نقيضان، لا يجتمعان ولا يرتفعان.

فإن قال قائل: إن الخليل يرى أن الحركات أصلها السكون، فكيف يكون السكون أصلا للحركة، ولا يكون حركة؟!

قلت: هذه مغالطة؛ فالخليل لم يقل إن السكون أصل الحركات، بل قال إن الأصل في الحروف السكون، يريد أن نحو شاةٍ أصله شَوْهة بسكون الواو، فلما حذفت الهاء لاقت الواو هاءَ التأنيث فانفتحت؛ لأن هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحا، فتحركت الواو بعد فتح الشين فقلبت ألفا، وهذا مراد الخليل، ولم يرد أن السكون أصل للفتح والكسر والضم.

فإن قال: إن السكون حركة، وهذا رأيي أنا والخليل، ولكنه لم يستطع التحقق من ذلك؛ لأنه لم يكن في زمانه حاسوب؟

قلت: ما كان أغنى الخليل عن هذا العاثور! وهو الذي شافه العرب أهل الاحتجاج، ولا يزال الناس يفسرون كلامه الذي نقله عنه صاحبه في الكتاب وغيرُه، فإن ظننت أن الخليل عجز عن بيان رأيه لعدم وجود الحاسوب وعلمته أنت، فبئس ما رأيت.

فإن قال: فما بالهم قد قالوا: حركات الإعراب الضمة والفتحة والكسرة والسكون؟!

قيل: هذا من تسمية التغليب؛ من حيث كان الإعراب إفصاحا وإبانة، فلما كان ذلك غالبا بنقل الكلمة من حال السكون إلى حال التحريك أجروا الاصطلاح عليه؛ تغليبا للأصل، وهو كون الإعراب تحريكا؛ فالكلام قبل التركيب كان موقوفا، فتقول في الإفراد: زيدْ، محمدْ، قائمْ، يكرُمْ، فإذا ركبتها قلت: زيدٌ قائمٌ، ومحمدٌ يكرُمُ.

ثم يقال له: ما أصل الواو والياء والألف عندك؟ أحركات هي أم لا؟ فإن قال: نعم، قيل له: هل سمعتَ بحرف تَحرّكَ بحركتين خالصتين؟

فإن قال: نعم، لحِق بالمجانين، وإن قال: هذا غير مقبول عقلا، قيل: صدقت، فكيف تقول العينَ من: هُوْد وعِيْد وقَوْل ورَيْب، أتكون العين من هود وقول ساكنة مضمومة، ومن عيد وريب ساكنة مكسورة؟! وهذا ما لا ينفك عنه.

وبرهان ضروري آخر، هو أن أحرف العلة إذا سكنت كان لها أحكام غير أحكامها محركةً؛ ألا تراك تقول في الماضي من القول والبيع والخوف والهيبة والطول: قال وباع وخاف وهاب وطال، فلما تحرك حرف العلة وانفتح ما قبله قلب ألفا. فإذا سكّنت هذه الحروف لم تقلبها، كما تقول: قَوْلٌ وبَيْعٌ، وكذلك سائر هذه الكلمات، وما جرى مجراها. فلولا أن السكون ليس بحركة، لم يكن له مع هذه الأحرف إلا ما لسائر الحركات معها.

فإن قال: فهل ترون ما قاله سيبويه في أن الإعراب لا يكون إلا آخر الكلمة صحيحا؟ إنا لا نراه يصح؛ لأن الكلام _كمثلثات قطرب_ تتغير معانيه لاختلاف حركات الحروف التي هي فاء الكلمة أو عينها، نحو غُمر وسلام. وليس عندنا شيء في العربية اسمه البناء، وإنما هو من وضع سيبويه.

قيل: إذا كان الإعراب في أصل وضعه للإبانة والإفصاح؛ فإن النحاة استعملته استعمالا خاصا بهم، فجعلوا ما يختلف أواخر الكلم به لاختلاف العوامل إعرابا، وغيره بناء، فلم يُرد سيبويه اختلاف المعاني التي وضعت الكلمة عليها من حيث هي صوت، بل التي تختلف بحسب اختلاف مواقعها في الكلام؛ كما تقول: هذا زيدٌ، ورأيت زيدًا، ومررت بزيدٍ، ويقومُ زيدٌ، ولن يقومَ، ولم يقمْ؛ كما سمي علم الفقه، وإن كان كل فهم فقها، وكما سمي علم النحو وغير ذلك، فهذا اصطلاح خاص بأرباب الفنون، لا يلحق أهلها العيب من أجله إلا بفساد لحق الطاعنين فيهم.

فإن قال: فما محل الحركة من الحرف؟ أقبله هي أم بعده أم معه؟

قيل: هي بعده، فإن قال: فما الدليل؟

قيل: الدليل أنك تقول مِيْزان ومُوْقن وطَلَل، فلولا أن الحركة حادثة بعد الحرف، لم تكن الواو في مِوْزان لتنقلب ياء، فلو كانت الكسرة حادثة قبل الميم، لكانت الميم فاصلا بين الواو والكسرة، وكذلك موقن، فكان يمتنع قلب الياء واوا، وكذلك الطلل؛ ففتحة اللام الأولى حجزت بين اللامين، فامتنع الإدغام.

فإن قال: فكيف قالوا: أن الواو في يعد ونحوه حذفت لوقوعها بين ياء وكسرة، فلو كانت الحركة حادثة بعد الحرف، لكانت العين فاصلا بين الواو والكسرة.

قيل: ليس هذا بدليل؛ لأن القائلين بأن الحركة بعد الحرف وبأنها قبله وبأنها معه قالوا جميعا: وقعت الواو بين ياء وكسرة، فدل على أن هنا أمرا آخر، فالمقصود دفع الثقل الكائن من اجتماع الواو والكسرة، لا أن الكسرة قبل العين المحركة بها.

والكلام في هذه المسائل طويل، وليس تحته كبير فائدة إلا لمن أراد استخراج حكمة اللسان، كما كان يفعل عبد القاهر وأبو الفتح – رحمة الله عليهما -، أما من أراد أن ينقص العلماء قدرهم، فهو بالنقيصةِ أولى، بل هو متعين لها، وإطالة الكلام معه ضرب من ضياع الأزمان بلا فائدة ترجى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى