سياسة

ملحمتا أكتوبر بين الأمس واليوم (٢)

رضا راشد| من علماء الأزهر الشريف
                  ذكرنا في المقالة السابقة وجوه التشابه بين ملحمة أكتوبر الأولى(١٩٧٣م) وملحمة أكتوبر الثانية(٢٠٢٣م)، وبقي السؤال:فماذا عن الفوارق التي كانت بينهما؟
والجواب:
أولا: كانت الملحمة الأولى ثمرة جهد دولة كبرى بحجم مصر، سخرت كل إمكاناتها البشرية والاقتصادية والسياسية والعسكرية لخوض المعركة تساندها دول العرب والمسلمين وبعض القوى الخارجية كالاتحاد السوفيتي الذي صدر لنا السلاح، فهي دولة تحارب دولة، وهذا جيش نظامي يواجه جيش نظاميا في أرض بعيدة عن الكتلة السكانية للمدنيين: إن انتصر فبها ونعمت، وإلا انسحب من ارض المعركة إلى أرضه آمنا إما متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة يعد العدة لكرَّةٍ أخرى وجولة ثانية =أما الملحمة الثانية فقد تمت بجهود فئة قليلة مؤمنة، إمكاناتها العسكرية والبشرية والاقتصادية مهما تكن عظيمه فهي محدودة، ثم إن أرض المعركة هي التي يسكنون فيها، ثم إنهم محاصرون: (برا، وبحرا، وجوا) قد رماهم العالم كله: (عداوةً أو جبناً) عن قوس واحدة، في قبضة عدوهم تتجول في سمائهم طائراته، وتقذف بيوتهم مدافعه ودباباته فتهدمها على رءوسهم، وتقطع عنهم المياه والكهرباء متى أراد.

فلهذا:
إن كانت الملحمة الأولى في (١٩٧٣م) إنجازا فإن الملحمة الثانية في (٢٠٢٣م) لتتخطى مرتبة الإنجاز ارتقاء إلى قمة الإعجاز؛ فقد أحالوا الخيالَ حقيقةً، وأصاروا المستحيلَ ممكناً، وجعلوا من العدم أمرا واقعا، فلله درهم، وشكر الله لهم جهدهم.

ثانيا: كان جميع العرب والمسلمين (حكوماتٍ وشعوباً )قبل الملحمة الأولى مجمعين على عداوة هؤلاء الأوغاد، وكانت خيانةً عظمى ووصمةَ عارٍ كبرى أن تكون بينهم وبين أحد من العرب علاقةٌ ما، وكان الإعلام في جميع الدول العربية يملأ القلوب حماسة ويثير الحمية في النفوس من أجل قتال هؤلاء، وما إذاعة صوت العرب والقصائد الشعرية التي تغنى بها كبار المطربين (كعبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم)في ذلك الوقت منا ببعيد.

أما قبل الملحمة الثانية، وعلى مدى خمسين عاما، ونتيجة لمبادرات التطبيع المشئومة فقد صار ما كان بالأمس حراما- أمرا مباحا،بل مستحبا ، بل مفروضا علينا فعله، وصار ما كان يُرتَكبُ في الليل تحت جنح الظلام مصخوبا بحمرة الخجل، صار يُفعلُ علانية وبلا مواربة، ولا خجل. وصار ما كان يستحيا من فعله أمس يُتباهى ويُتفاخر به اليوم، وبات الإعلام العربي الذي كان يَتَغَنَّى أمس بأمجاد العرب ويحثهم على الانتقام من عدوهم، بات اليوم وهو يهرول في قطيع التطبيع يسيرفي طريق الوهم إلى غاية غير محمودة، حتى صرنا الى ما صرنا إليه الآن من هذه الأفكار المسمومه والأقوال المرذولة التي تتردد على ألسنة بعض منا، من أن هؤلاء المقاتلين المجاهدين ما هم إلا خونة يتحركون لأجندات معينة، وإلى الله المشتكى.

ثالثا: إننا – كجيل شارف الخمسين – لم نعش الملحمة الأولى ،بل قرأنا عنها بعدما انتهت أحداثها، ومن ثم فهي بالنسبة لنا تاريخ لا ينسب شيء منه إلينا لأننا لم نعايشه. أما في الملحمة الثانية فإننا نعايش أحداثها بأرواحنا وأنفاسنا وأعصابنا لحظة بلحظة لا ندري إلى أي نتيجة تنتهي، وإن كنا نتمنى على الله عز وجل ونبتهل إليه أن تنتهي على خير للإسلام والمسلمين. وفارق كبير وبون شاسع بين الأمرين ، فالأول كمن يستحضر مباراة مسجلة في كرة القدم من اليوتيوب قد جرت أحداثها منذ زمان بعيد وعُرفَتْ نتائجُها فهو يتابعها بأعصاب باردة هادئة، أما الثاني فهو كمن يشاهد مباراة نهائية لا تزال تجري أحداثها على أرض الملعب لا يدري إلى أي شيء تنتهي نتائجها وتكون عواقبها، فتراه ينخلع قلبه(فرحا أو فزعا) مع كل هدف لفريقه أو عليه، بل مع كل هجمة لفريقه أو عليه…ولهذا فإن من حق هذه الملحمة الثانية علينا أن نجتهد في أن تنتهي إلى حيث نحب وأن نحاول أن نساهم فيها ولوبالقليل؛فإنها هي التي أحيت فينا وجعلت النصر واقعا في حياتنا بعد ان كان مجرد تاريخ، وأقل ما يجب علينا فعله: الدعاء، والاستغاثة لله أن يتصرهم وأن يؤيدهم(إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ) ونصرتهم بالمال والأنفس إن استطعنا، ثم بأن نعمل جاهدين على مكافحة هذا الغبش الفكري الناشب في العقول نتيجة لما تقوم به آلة الدعاية الصhيونية من تشويه للحقائق وتسميم للعقول .

رابعا: في الملحمة الأولى كانت السادات رئيسُ مصر يقود المعركة سياسيا ويشرف عليها عسكريا وكان أخوه الطيار في طليعة من ضحوا بأرواحهم وكان خطابه في مجلس الشعب في السادس عشر من أكتوبر خطابا يحمل من معانيالعزة والكرامة فوق ما يخمل من جمال الفصاحة والبلاغة، مع تحفظي على توقيته=أما في الملحمة الثانية فإن رئيس فلس طين (المنتهية ولايته منذ ما يقرب من خمسة عشر عاما،في ٢٠٠٩/١/٩م) محمود عباس يبدو أنه كان قد دخل في غيبوبة فلم نحس منه من فعل أو نسمع له ركزا طوال الأيام الأولى..حتى إذا إذا كان الغدر الصhيوني بالمدنيين خرج لأول مرة يعرب عن أسفه ويستغيث بمن أسماه العالم الحر لإنقاذ المدنيين، وبعد أن أعرب واستغاث بالمجرم ليتقذ الضحية!!عاود الغطيط في نوم عميق كأنه بكر ( الجمل الصغير) شُدَّ خناقُهُ، وهذا ليس بجديد عليه ولا على أفراد منظمته الذي جعلوا من التهاون في حق بلادهم وشعبهم بقرة حلوبا تدر عليهم وحدهم أو سحاية وطفاء تمطر الذهب على رءوسهم فقط.. مما يظل على أنهم في جانب وشعبهم الذي يعاني الويلات في جانب آخر بعيد كل البعد عنهم.

خامسا: اختلف توقيت الغارة الأولى في الملحمتين، وإن كانت الغاية واحدة وهى التمويه والمخادعة والمباغتة: في الملحمة الأولى كانت البداية في الساعة الثانية ظهرا مخالفة بذلك ما ما اتفق عليه الخبراء العسكريون من أن الوقت المناسب لبدء الحرب هو أول ضوء(بعيد الفجر)؛ تحقيقا للمباغتة أو آخر ضوء(بعيد المغرب) استثمارا لإرهاق الجنود والضباط بعد يوم تدريب شاق.فكانت الضربة ظهر مخالفة لكل التوقعات..وكأن قادة الجيش المصري آنذاك قد استوحوا الفكرة من أحداث الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم اعتاد أن بظور أبا بكر الصديق رضي الله عنه في بيته صباحا او مساء فلما كان اليوم الذي أمره ربه بالهجرة إثر تآمر المشركين على قتله، جاء النبي بيت ابي بكر الصديق رضي الله عنه متقنعا في الظهيرة؛ تمويها على المشركين مبالغة في التخفي حتى إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال ما جاء النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الساعة إلا لأمر حدث.

أما في الملحمة الثانية فقد كان المجا هدون هم المغيرين صبحا فنزلوا بساحة العدو فساء صباح المنذرين، فأعادوا بذلك تاريخا تليدا من أجدادهم العرب والمسلمين حين كانوا يكبسون عدوهم صباحا فينالون منه مغنما ويصيبون منه مقتلا.

فاللهم برحمتك سدد رميهم واجمع صفهم ومكنهم من رقاب عدوهم .

واللهم بقدرتك وقوتك شتت شمل عدوهم.
اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا ولا تغادر منهم أحدا.

اللهم إن البحر جند من جنودك فأغرق فيه سفنهم، وإن الجو جند من جنودك فحرق فيه طائراتهم وإن الأرض جند من جنودك فاجعلها مقبره لهم.

اللهم جمد الدماء في عروقهم وزلزل الأرض من تحت أقدامهم .

اللهم أعم أبصارهم عن جنودك واجعل فوهات بنادقهم ومدافعهم مردودة إلى صدورهم .
اللهم آمين آمين آمين

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى