عن الوجدان: لغويا

مصطفى سليمان | سوريا 

قل: وِجدان الشي المفقود (بمعنى العثورعليه مكسب) … وقل: شعر الوِجدان مؤثِّر.
ليس في مادة ( وَجَدَ) في معاجمنا القديمة معنى (الوِجدان) الذي يجيش بألوان الانفعالات ومشاعر الألم والحزن إلخ…كما نعرفها في الشعر الوِجداني، وكما عرَّفه عبد الرحمن شكري من أعمدة مدرسة “الديوان” مع العقاد والمازني ” ألا ياطائر الفردوس إن الشعر وِجدانُ”.
من معاني ” وجدَ “: (حزِنَ) ومنه الوجْدُ، ووجد عليه مَوْجِدة : (غضبَ)، ووجَد بها: أحبّها. ووجدَ الشيءَ: أدركه مثل وجدّ ضالّتَه. والمصدر(وِجداناً) ووَجداً، ووُجْداً وجِدةً ووجوداً. وتَوَجَّد له: حزِنَ له. وتوجّدَ بها: (أحبها). وتوجَّدَ الأمرَ: (شكاه) ووجدَ عليه: (غضبَ).
ويستشهدون ببيت المتنبي على أن المصدر(وِجدان) لا يدل على ما نعرفه من الانفعالات الوِجدانية، والشعر الِوجداني بل على إيجاد الشيء والعثور غليه:
” يا من يعزُّ علينا أن نفارقهم
وِجدانُنا كلَّ شيءٍ بعدكم عدمُ “
أي كل شيء (نجده) بعد فراقكم لا قيمة له. وإعراب(كلَّ) هنا مفعول به للمصدر المضاف وِجداننا. وللعلم فإنهم “يعتبرون”(ولهذا الفعل حديث خاص) المتنبي خارج الاستشهاد اللغوي لتأخُّره عن عصر الاستشهاد بالشعر العربي القديم الأصيل. وهو الذي حفظ متن اللغة العربية . ياللعار!!
وفي الوجْد معنى( الحزن) . قال ابن الدُّمَينة:
” ألا يا صَبا نجدٍ متى هِجتَ من نجدِ؟
لقد زادني مسراك وجْداً على وجْدِ “
قال ابن منظور في لسان العرب عن ” الوجد”: يقال في الحب لا غير”. وأضاف: وجدَ الرجل في الحب وجْداً أي (حزن).
إذن الحزن، والحب الشديد، والغضب، والشكوى… من روح جذرمادة (وجدَ). وهل نجد في الشعر الوِجداني غير الحب والهيام والحزن والغضب والانفعالات الجياشة والشكوى… ؟
ولهذا” رضخت” (ولهذا الفععل أيضاً حديث خاص) المعاجم والمجامع غصباً عنها لتبنِّي هذه الكلمة الجديدة الشجيّة:(الوِجدان). قال المعجم الوسيط وهو معجم المجمع اللغوي بالقاهرة:
” الوِجدان، كل إحساس أوّلي باللذة والألم، وكل ضرب من الحالات النفسية من حيث تأثرها باللذة أو الألم… “. فاعترف بالمعنى الذي يتداوله الناس والكُتاب.
ووضعت المعاجم الحديثة لفظة جديدة ليست في معاجمنا القديمة: الوجود، ضد العدم. والوجودية فلسفة جان بول سارتر؛ وهي الوجود السابق على الماهية. وتقوم على الحرية المطلقة التي تُمكِّن الفرد من أن يصنع نفسه ويتخذ موقفه كما يبدو ويحلو له، تحقيقاً لوجوده .
أليست الوجودية من رحم جذر وجَدَ؟ أليس طرفة بن العبد الجاهلي شاعراً(وجودياً) مجازاً؛ لأنه سعى إلى صُنع “وجوده ” واتخاذ مواقفه في الحياة كما يحلو له ؟ :
” ألا أيهذا الزاجري أحضرَ الوغى
وأنْ أشهدَ اللذات هل أنت مُخلدي ؟
فإنْ كنتَ لا تسطيعُ دفعَ منيَّتي
فدعني أبادرْها بما ملكت يدي “
يقول، لمن يلومه على خوض المعارك والتمتع بالملذات:أنا شاعر”وجودي” أريد تحقيق ” ذاتي” كما يبدو ويحلو لي؛ لأنك لا تسطيع:(أي تستطيع) تخليد وجودي في هذه الحياة!
إنه حزين، وغاضب، وشاكٍ باكٍ في أعماقه من حتمية الموت وتلاشي وجوده؛ فالمغامرات ومتعة اللذات علاج (وِجداني) في مواجهة الحياة الفانية.
هذا هو الشعر (الوِجداني) !! . لغتنا الجميلة تبحث عمن يقرأ روحها لا مواد معاجمها الصمّاء ذات البعد الواحد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى