“المُسْتلبون” رواية تفضح الديكتاتورية

صبرى الموجى | صحفي بجريدة الأهرام المصرية

  قُدّر لشعوب العالم الثالث أن تخضع لسيطرة طُغاة مُستبدين، سحقوا إنسانيتها، واستباحوا حُرماتها، و ساموا أهلها سوء العذاب، وأفقروا العباد، وتسببوا في تخلف البلاد فكريا وعلميا واقتصاديا.

وإذا كان بعضُ الشعوب قد تخلص من ربقة هذا الطغيان، إلا أن هناك كثيرا منها مازال يُعانى الظُلم، ويرزحُ تحت نير الطغيان والاستبداد الذي استوطن البلاد، وصار شبحا مُخيفا يطل برأسه هنا وهناك كلما سنحت له الظروف، تاركا وراءه الشعوب تموج في ضلالات الجهل والتخلف والأمية، تُسيطر عليها روح الاستكانة والتقوقع والانكفاء على الذات، وتتجرع كأس الظُلم العلقمية !

وفى خضم تلك الحال إذا بتلك الشعوب تتطلع إلى المُنقذ الذي يُخلصها من الذل والهوان، والذي تحدثت عنه الأساطيرُ القديمة، والديانات السماوية وغير السماوية، وبعضُ الفِرق والمذاهب، فأكدت أنه سيملأُ الأرض عدلا بعدما مُلئت جورا، ويمحقُ الظُلم والاستبداد، ويُحطم رموز الفساد والاستلاب، ويردُ للبشرية إنسانيتها المسحوقة، وفي خضم ذلك تطول فترةُ انتظار الجماهير لهذا المُنقذ البطل الذي لا يجئ، وربما جاء في صورة بطلٍ زائفٍ أضحى حالُ الناس معه كحال المُستجير من الرمضاء بالنار، فبعدما ظن الناسُ أن الخير قادمٌ على يديه إذا بهم يفاجأون بالويل والثبور، وعظائم الأمور، إذ يتظاهر ذلك البطلُ الموهوم – كنوع من الخدعة – بإحساسه بنبض الجماهير، وانحيازه لحقوقهم، فيهبُ الشعوب سقفا عاليا من الحرية والديمقراطية، ولكنه على مر الأيام يهبط بهذا السقف فوق رؤوسهم شيئا فشيئا حتى يسحقهم تحت قدميه، لتبدأ حلقةٌ جديدة من حلقات الحكم الديكتاتوري المُستبد!

وهذا يدفعنا إلى التساؤل: تُرى كيف يظهرُ الديكتاتور؟ وما مُبررات وجوده، وما هي وسائله وحيلُه لفرض سيطرته على شعبه والاحتفاظ بكرسيّه؟ وهل من سبيلٍ للخلاص من حكم الديكتاتور؟

هذه الأسئلة تجيب عنها رواية ” المُسْتلبون” وهى رواية اجتماعية سياسية، رمزية بمسحة صوفية، تناول فيها الكاتبُ ظروف وملابسات ظهور الديكتاتور في تركيا كنموذج للدراسة، ومُبررات وجوده، وأبرز الأساليب التي يعتمدُ عليها في فرض سيطرته على شعبه واحتفاظه بالسلطة.

ومن تلك الأساليب – كما تُبرز الروايةُ – استلابُ المجتمع عقليا، عن طريق تغييب العقل وتجريده من ملكات التفكير والإبداع، و تفريغه من كافة الأفكار والذكريات، خاصة التي تتصل بهويته وماضيه وجذوره، ومن أساليب الاستبداد أيضا كما تُبرز رواية ” المُسْتلبون” إفقاد المرء ” فرديته” أي وعيه بذاته وشخصيته، ودمجه مع غيره في كتلة واحدة لا تمايز فيها،  شأنه في ذلك شأن “القطيع” من الخراف أو الماعز ، أو أي قطيع من السوائم شئت، الأمر الذي يُفقد المرء آدميته، فيختنقُ فيه الخلقُ والإبداع، وبالتالي يصيرُ المجتمعُ فاقد الهوية، مُقتلَعَ الجذور، ذا ذهنية رضوخية، ينتهجُ الطاعة العمياء، والخضوع المُطلق دون جدال أو نقاش، ويقبلُ استبداد حكامه بلا شكوى ولا تذمر.

وعلى مر الأيام يستسيغُ الاستبداد، فيُمسى أشبه بجماجم وهياكل عظمية مسلوخة الحواس، مطموسة الملامح والهوية، شخوصه تافهة، وشخصياته خواء، تسحقها مشاعرُ الدونية والانهزامية والعجز واللا انتماء، يسهلُ السيطرة عليها واستعبادُها لتحقق متطلبات الأنظمة الاستبدادية الغاشمة، وخدمة مصالحها وأهدافها.

وتكشف “المستلبون” أن للأنظمة الديكتاتورية وسائل عدة للاستلاب العقلي أهمها : القمعُ والعنف والإرهاب، فلا يمكن لأحد المحكومين أن يعترض أو ينتقد أو يُناقش أو يدلى برأيه، ولا يكون أمامه سوى خيار مُنافقة الحاكم والتغني بإنجازاته وطهارة يده، ونقاء بطانته، ويكون مصيرُ أي معارضة القمع والانسحاق والزج بأصحابها في غياهب السجون وأعواد المشانق.

ومن وسائل الاستلاب أيضا – كما تبرز الرواية – الترويج لأفكار ترقى بالقائمين على هذه الأنظمة عن منزلة البشر، وتصورهم في هيئة الحكماء المُنزهين عن الخطأ والنواقص البشرية، بل يصل الأمر إلى الادعاء بأنهم أشخاصٌ ذوو طبائع إلهية، أو مفوضون من قبل الله لحكم البلاد !

وقد اعتمد يلماز فى روايته على الرمز حتى يتمكن من بث أفكاره وآرائه بصورة مُكثفة دون الاصطدام بالسلطة .

وتُعتبر” المستلبون”واحدة من التعبيرات الجمالية المُعبرة عن الحراك السياسي والاجتماعي الذي تشهده العديد من المجتمعات العربية والدول النامية.

جدير بالذكر أن رواية ” المُستلبون”..  هي الرواية الأهم والأبرز للأديب التركي دورالي يلماز، المولود 1948م بولاية دنيزلي ” تركيا “، حيث عمل أستاذاً للأدب التركي الحديث، ورئيساً للقسم، وعميداً لكليات الآداب في جامعات ” إسطنبول، وموغله ، والشرق الأدنى ” و منذ 2014 وحتي الآن يعمل الآن رئيساً لقسم اللغة التركية وآدابها في كلية الآداب ” جامعة الثقافة بأسطنبول. ” ..

يُعد “يلمز” من وجهة نظر بعض نقاد الأدب التركي الحديث – أحد الروائيين الذين أسهموا في وصول الرواية التركية إلى مستوى النضج الفني، ورفعها إلى مستوى الروايات العالمية.

وللكاتب إسهامٌ أدبيٌ يتمثل في عشر روايات وأربع مجموعات قصصية .. أبرز رواياته ” المنازل ذات الستائر السوداء” 1976 ، و” منحدر الفتوى ” 1978، ونال عنهما جائزة الوقف القومي التركي للثقافة عام 1982، كما اُختير روائياً للعام في العام ذاته ، ومن رواياته أيضاً ” أنهار اليسوية ” 1995 ، و” القيام ” 1997 ، و ” الشيخ بدر الدين ” 2001 ، و” الحاج بكتاش ” 2002 ، وحازت مجموعته القصصية ” رقص العقرب “على جائزة اتحاد فناني ” قيصري ” عام 1989 .

أما ترجمة الرواية الصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب فهي للدكتور: جمال سعيد عبد الغنى ، وهو أكاديمي مصري بارز، وكاتب من طراز فريد، تُعتبر ترجماته صورة حية للنص الأصلي، فضلا عن أنه يُضفي عليه بأسلوبه الرائق بهاء وسحرا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى