رسالة إلى أخي أحمد بيوض !!

د. محمد بن قاسم ناصر بوحجام | الجزائر

 

أخي أحمد بن بابه بيوض.. هكذا عرفتك

رحلت عنّا فجأة، ففجعتنا بهذا الرّحيل، انتقلت عنّا سريعًا وتركتنا في حزن طويل، لم نصدّق ولم نتقبّل الخبر، وإن كان الموت حقّا ليس منه مفرّ. فكلّ نفس ذائقة الموت، وإلى الله الرّجعى. لكنّ فراق الأحبّة صعب، ومفارقة الـمخلصين فيه وصب..بقدر ما نحن مصدومون بهذا الفراق، فإننّا لن نقول إلاّ ما يرضي الذي خلق الموت والحياة ليبلونا، ولا نردّد إلاّ ما علّمنا: إنّا لله وإنّا إليه راجعون. اللهم إنّا نسألك رحمة لموتانا على العهد وعلى الإسلام. وحسن الخاتمة لمن يلحق بهم..

أخي أحمد!!عاشرتك طويلا، ورافقتك في محطّات كثيرة، وعرفت عنك الكثير: في جهادك، في أعمالك، في أخلاقك، في مشروعاتك، في خدماتك لصالح المجتمع والوطن، وفي صالح الفقراء والمحتاجين، ولـمصالح النّاس، وفي مساعداتك لطالبي العلم والإرشاد والتّوجيه.. وقد كنت في كلّ محطّة ومشهد وموقف ومَعْلَمٍ.. الرّجل الشّريف العامل المخلص، الصّنديد المجتهد في تطوير الأداء في الحياة، وتفعيل العمل في كلّ مجال.

عرفتك تلميذًا في المدرسة الرّسميّة في القرارة في المرحلة الابتدائيّة، ثمّ في المرحلة المتوسّطة، وقد كنت ضمن أوّل دفعة تلتحق بهذه المرحلة في هذه المدرسة بالقرارة..

عرفتك طالبًا مثابرًا مجتهدًا في حفظ كتاب الله في مدرسة الحياة.. فكان لك ذلك على يد شيخنا المرحوم الأستاذ عمر بن الحاج سعيد بسيس سنة 1966م، وكنتُ أنا في دفعتك، التي سجّلت رقمًا قياسيّا بلغ واحدًا وأربعين طالبًا (41) ما بين جويلية 1966 وجوان 1967م. كان معنا الأخ الحاج  موسى بن محمد خبزي ونورالدين (الحاج) بن محمد سليمان بوعصبانه والمرحوم الشّيخ محمد بن حمو مصباح… فالتحقتَ بحلقة ” إيروان” وأصبحت  من عمار مجالس التّلاوة والحمد لله.

 عرفتك في جمعيّة ” مرآة الأسبوع” التّابعة لطلبة معهد الحياة القراريّين، وكنتَ مع ثلّة من رفقائك في المدرسة الرّسميّة تحضرون أنشطتها، وكان رئيس الجمعيّة الأستاذ علي بن إبراهيم بيّوض.

عرفتك طالبًا في الجامعة، مجدًّا مثابرًا، إلى جانب ممارسة النّشاط مع كوكبة من إخوان الصّفاء، في الجزائر العاصمة والقرارة، الذين كان لهم فضل كبير في نشر الوعي والثقافة في الوسط القراري، الذي توّج بأوّل أسبوع ثقافي في القرارة، وفي وادي مزاب، من تنظيم طلبة الجامعة والثّانويات، كان ذلك سنة 1977م.

شَهِدَت على هذا النّشاط أماكن عديدة، في القرارة: نادي الحياة، ومدرسة الحياة، ودور العشائر، وبيوت المشايخ والوجهاء وأعيان القرارة، في مختلف المجالاتوشبابها.. في الجزائر العاصمة: المحلّ الذي يسمّى ” المركز” الكائن خلف جامع كتشاوة.. أصبح اليوم تابعًا لـمدرسة الهداية. هده  الـمدرسة(التي كنتُ أنا معلّمًا فيها ومقرّها نهج أحمد علاّم المتفرّع من شارع عمار علي بوسط العاصمة). كانت مقرًّا لكثير من أنشطة طلبة الجامعة في السّبعينيّات من القرن العشرين، وكذا الأحياء الجامعيّة، ودور بعض الإخوة الطلّبة والمحسنين. كنتَ في كلّ هذه الأماكن والأنشطة مبرّزًا ومتألّقًا بأفكارك وآرائك وانتقاداتك ونقدك..

عرفتك في مدينة باتة: طبيبًا في المستشفى الجامعي، ورئيس قسم الأمراض الباطنيّة فيه، ثمّ مدير معهد الطّبّ في الجامعة..الكلّ يشهد لك بالكفاية العلميّة والإخلاص والنّزاهة والانضباط والصّرامة..انتظم القسم بوجودك فيه، واعتدل سلوك الممرّضين والممرّضات والعاملين والعاملات بحسن تسييرك وتدبيرك، وقد تطوّر المعهد باقتراحاتك وتفاعلك مع عملك.. فكم كانت الخسارة كبيرة حين غادرت الـمَعْقِلَيْنِ، وكم كان أسف مواطني باتنة شديدًا بعد هذه المغادرة.

عرفتك في جلسات جماعة باتنة المحترمة المتميّزة، بمشاركاتك الكبيرة بالآراء والنّقد والتّصحيح والتّوجيه والتّطوير.. عرفتك في مسجد الفرقان بالمدينة نفسها بدروسك وندواتك وكلماتك، التي كانت تجمع بين الإرشاد الصحّي، والتّوجيه الاجتماعي، والتّوعية الوطنيّة..فكنتَ خير وافد إلى باتنة، وخير مساعد لتفعيل الحياة الاجتماعيّة فيها بخاصّة.

عرفتك نائبًا في البرلمان، دخلت فيه بعد ترشيح أمّتك لك لتمثيلها في هذا المنبر الوطني خير تمثيل، كما كان سلفك في مرحلة سابقة إمامنا الشّيخ إبراهيم بن عمر بيّوض..قد سلك هذا المسلك فأدّى رسالته وقام بواجبه الدّيني والوطني أحسن قيام، فاتّبعت مسيره، ونهجت نهجه، وحقّقت للأمّة آمالها كما فعل هو..فلا غرابة في هذا النّجاح والفلاح، فتلك العصا من تلك العصيّة، وذك الشّبل من ذلك الأسد، والشّيء ن معدنهِ لا يُستغرب..فكنتخير خلف لخير سلف؛ إذ سرت  بطريقة: (فبهداهم اقتده)..

قمت بواجبك على أحسن ما يرام؛ مشاركة في مناقشة قضايا الوطن، وعرض اهتمامات ولايتك وبلدتك  على المسؤولين، وحرصت على تنوير بني جلدتك وذوي قرباك بالـمستجدّات والطّوارئ والمفاجآت، وبما هو استشراف للمستقبل وما هو آت، فاضْطَلَعْتَ وأَطلَعت، ووعّيت وأرشدت، ونبّهت وحذّرت وبشّرت,, فوضعت الجميع في الصّورة ؛ بما تمرّ بها جزائرنا الحبيبة، وأوقفت كلّ فرد في حدود مسؤوليّته في خضمّ الحياة المتجدّدة المتطوّرة المتغيّرة المتقلّبة..

عرفتك إطارًا ورجلا من رجالات الدّولة المحنّكين؛ مستشارًا للحكومة، ومبعوثًا للنّظر في بعض القضايا  المهمّة الحساسّة كالأحداث التي حصلت في تيزي وزو وغيرها، وعضوًا في سلطة الضّبط السّمعي البصري، فأضفت إلى سجّلك فضاء نشطت فيه وعملت، لتتّسع دوائر مشاركاتك في الحياة العامّة في الجزائر.

عرفتك عضوًا فاعلا وبارزًا في المجالس الكثيرة والجلسات والاجتماعات التي تقام في المناسبات العديدة.. كلقاءات المعايدة التي تكون فيأيّام العيد  كلّ سنة. وفي اللّقاء الدّوري الذي يقام في عشيّة العيدين (الفطر والأضحى) في دار الرّجل الكريم المحسن السّيّد أحمد بن قاسم جهلان. وفي مسجد العالية والمنار بخاصّة وغيرها من الأماكن التي تكون فيها الفرصة مواتية لعرض أحوال الأمّة وأوضاعها.. كنت دائمًا مبرّزًا وناشطًا وفعّالا فيها..

عرفتك رجلا خدومًا للمجتمع، مساعدًا من يحتاج إلى المساعدة، ومعينًا النّاس في قضاء حوائجهم.

من جملة ما يكشف عن شهامتك ومروءتك ورجاحة عقلك، وإخلاصك لمهنتكالطّبيّة.. أنّك قلت لي عدّة مرّات. إنّي آثرت العمل في القطاع العام، ولم أفكّر ولن أفكّر في فتح عيادة خاصّة لأسباب عديدة، منها إنّي أريد أن أبقى في تواصل مع الأطبّاء لتطوير معارفي والمشاركة في اللّقاءات والملتقيات والاستشارات التي تعقد في هذا الفضاء لتحسين أدائي، ولتوطيد علاقاتي وصلاتي بالزّملاء في المهنة.

هذا تفكيرُ مَنْ فهم دوره في الحياة، ووعي مسؤوليّته النّابعة من تكوّنه وتعلّمه، وعلم وأدرك أنّ الحياة ليست مادّة فقط، هي قبل  ذلك أخلاق وقيم ومعانٍ، وطموح ومسايرة للتّطوّر، وتقديم المصلحة العامّة على المصلحة الخاصّة، وتوظيف المعارف في خدمة المجتمع والوطن والإنسانيّة عامّة..

أخي أحمد!! عرفت عنك الكثير، لأنّك قدّمت الكثير، لكنّ الذّاكرة تخون كثيرًا، والكلمات تعجز عن البيان، والإفصاح والتّصوير والتّعبيركثيرًا..

رحمك الله أخي ورفيق دربي في النّشاط والعمل الاجتماعي، وغفر لك وتقبّل منك وأسكنك فسيح جنّاته، نرجو منك الصّفح عمّا بدر منّا من تقصير في حقّك.. ونسأل الله أن يغفر لنا ما أخطانا في حقّك.. إنّه سميع قريب مجيب، إنّه غفور رحيم..

 الجزائر يوم الإثنين:  08  من  ذي القعدة  1441هـ – 29  من  يونيو  2020م

أخوك الوفيّ: محمد بن قاسم ناصر بو حجام

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى