لطيفة الحاج في “نواقيس العزلة” بين فانتازيا الحدث وفانتازيا الثقافة (2 – 4)

أ.د. يوسف حطّيني | أكاديمي فلسطيني بجامعة الإمارات

وتستعين الروائية أيضاً بمسخ فرانكشتاين (1) لتعميق أزمة شخصيتها الرئيسية؛ إذ تشير الساردة إلى أن ذلك المسخ زارها في الحلم، فخافت على راشد وعلى نفسها: “”خفت على راشد، خفت أن يصنع مسخاً، ويفتك بي إن رفض أن يصنع له خليلة تؤنسه”، ص121، لقد خافت أن يرفض راشد أن يصنع خليلة لمسخه، فيثور عليه، كما ثار مسخ فرانكشتاين على صانعه، ويقضي عليها، مثلما قضى ذلك المسخ على جميع الذين أحبهم فرانكشتاين.

كما تستعين الروائية في موقف درامي محدود التأثير برواية “الجوع” لكنوت هامسون(2) الذي يمتلك “قدرة خيالية على تصوير الجوع، ما يجعلني ألتهم ما يسد جوعي الذي سببته لي الرواية”، ص128.

وفي مستوى آخر من التداخل ترتقي الشخصية الروائية الأكثر حضوراً لتتدخل في روايات راشد، ففي أثناء قراءة الساردة رواية “رجائي” يدخل الأحدب دخولً مفاجئاً:

“رأيتُ الأحدب متعلقاً بالحبل وهو يضحك وفمه يبدو أكثر ازدحاماً بالأسنان. أغلق فمك ودعني أعيد قراءة الرواية: كان الرجل الذي أحبّها وأحبّته فقيراً، عاملاً في مطبعة، شاهد صورتها في أحدى المجلات، وفُتن بها”، ص54. كما يتدخل الأحدب في أثناء قراءتها رواية راشد “لص النهار”:

“يتراءى لي وجه الأحدب ببلاهة، يحدّق في غلاف الكتاب، ويهرش رأسه ببلاهة من الغلاف إلى وجهي، مستنكراً تيقظي واندماجي في القراءة. اختفى فجأة من أمامي حين انتبه لراشد، وهو يقترب مني”، ص47.

وفي تطور آخر تربط الساردة بين أرقها وبين رواية “الأرق”، التي كتبها زوجها فتقول: “اقتربت منه، كان غارقاً في نومه. عبثاً أهزّه، أجبني يا راشد: هل تحبني؟

قل وخذني بين ذراعيك؛ ليغادرني هذا الأرق وأنام”، ص131.

لقد دخلت روايات راشد إذاً في إطار الروايات التي قالت مريم، ولطيفة أيضاً، تباً لها، فتعبير “تباً للروايات” يصبح أكثر تحديداً في الثلث الأول من الرواية؛ إذ تقول مريم: “تبّاً لرواياتك يا راشد! أصبحت مركز حياتنا، وكل شيء يدور حولها بلا توقّف”، ص49. وهي تدعو لرواياته، في حالة اللاوعي، بالتباب؛ لأنها تغار منه أولاً،  فهو لديه، بخلافها تسعة أبناء، هم رواياته، وهو الذي بنى أحداث رواية له على قصتها الحقيقية، و عنونها بـ (ذاكرة الرحم)، وقد انفعلت إثر ذلك إلى درجة أن مزقت الرواية، وانفجرت في رجه راشد صارخة: “أنا سبب شهرته، لم يكن له الحق في استغلال معاناتي”، ص107.

لقد تداخلت روايات راشد، وأطّرت حياة الساردة التي تحب زوجها، وتعشق رواياته، وتحقد عليها في الآن ذاته، ويمكن أن نشير إلى عدد من السياقات السردية التي تؤكد مشاعر الساردة تجاه زوجها، وهي مشاعر تتراوح بين الحب والفخر، قبل  أن تتحول إلى غيرة تجعلها تضم رواياته إلى الروايات التي شكّلت أزمتها:

  • “احتضنته، وانتزعت الرواية من بين يديه، قبّلتها كأنها خده، قلّبتها كأنها ركبة ابني عبودي بعد أن ابدّل له حفاضه”، ص45.
  • “طلب منه أن يوفّر نسخاً موقعة لصديقاتي. يبتسم، يعلم بأنني سأتحدث عنها مطولاً وأدافع بشراسة عن افكاره”، ص47.
  • “أقبّله على خديه وأحتضنه هامسة في أذنه: سنحتفل بنجاحك قريباً ي حبيبي”، ص48.

إذاً تتداخل أحداث رواية “نواقيس العزلة ـ تبّاً للروايات” فيما بينها، وتترجّح بين الواقع والخيال. ومن نافلة القول الإشارة أن الواقع هنا ليس الذي نعيشه، بل الواقع الفني الذي تعيشه الساردة التي تقول: “أتأرجح بين الواقع والخيال، كما تتأرجح الروايات بينهما”، ص44، فبعد وصولها إلى بيتها، من مزرعة أبيها، تتسرب إلى أنفها رائحة عفنة، وتقضي رحلة طويلة في خيال ذاكرتها قبل أن تفتح الباب، وفي داخل البيت يظهر لها ظل غريب، بل كائن حقيقي من عالم الأوهام:

  • “يفزعني الظل الذي ظهر أمامي، ظل لرجل قصير، ممتلئ الجسم، يحمل في يده شيئاً يشبه الرشاد”، ص34.
  • “ليس ظلاً، إنه يقف منتصباً، يلوّح لي بالرشاد، ينظر عالياً، فينفتح سقف الغرفة، ويتدلّى جرس كبير من السماء”، ص35.

إنه كوازيمودو، ذلك المشوّه الذي ابتدعه خيال فيكتور هوغو، يحضر إلى فضائها في كل كابوس يرفعها مع ابنها إلى سماوات السعادة، ثم يلقي بها على نحو غرائبي إلى أرض كابوسية: “يهدأ البكاء حين يصل الحليب إلى جوفه، أنظر إليه مبتسمة، ينبت لي جنحان على ظهري، متربعة وعبودي في حجري، أطير عالياً في السماء، أسفل مني غابات كثيفة خضراء. أرى الأحدب يقف فوق غصن شجرة لا ثمر لها، يلوّح برشاده النحاسي ويقذفه نحوي. أضم عبودي إليّ بقوة، ونسقط في الغرفة”، ص48.

هنا تُسْلمها نهاية الحلم الكابوسي إلى الواقع الذي يُسْلمها، بدوره، إلى حلم جديد، ويمكن أن نشير إلى السياقات التالية للتدليل على أثر الحلم في صناعة أزمة الشخصية:

  • “إنه الرجل نفسه الذي يدق أشياءغريبة بواسطة الرشاد في المنحاز النحاسي، والذي رأيته في أحلامي منذ سنوات”، ص ص34ـ35.
  • “تتعالى أصوات ضحكاته داخل الجرس الكبير. أسقط، وأغفو من جديد”، ص35.
  • “يلوّح لي بالرشاد النحاسي، طن، طن، طن، يتحول رأسي إلى جرس كبير، أردد: بسم الله، بسم الله، وأفتح عيني وصدري يعلو ويهبط”، ص36.
  • “احذري من تلك المتسولة، لماذا جاءت إلى منزلك؟ سيتزوج بها، ستنجب له أبناء وتستولي على بيتك. مريوووم لم تكن امرأة، لقد كانت كوازيمودو يعبث بعقلي من جديد، لا، لا، كانت امرأة، فتحت عينيّ ووجدتني مستلقية على السرير”، ص57.

غير أن الشخصيات القادمة من الحلم، وكوزيمودو بشكل خاص، لا تكتفي بمراقبة الحدث، بل تتدخل في الحكاية، وها هو ذا “كوازي” يحمل الساردة حتى يخلصها من مللها، مثلما حمل حبيبته أزميرالدا، ويتبع الخادمة سوهارتي  بينما تكنس أرضية الشقة، “مثل طفل مصاب بفرط الحركة، مستثار وسعيد بالضوضاء”، ص82، حتى إنه يتشاقى بعد أن تنتهي الخادمة من التنظيف، فيأكل تمراً ويبصق النوى على الأرض: “توّقفْ كوازي، سوهارتي نظّفت، وكنست الأرضية للتو، انتابتني رغبة في البكاء، الستارة تتحرك بفعل الرياح، أغلقت النافذة خوفاً من دخول لص النهار”، ص84.

ها هنا تصبح الفاتنازيا مركبة، وأكثر تعقيداً؛ فإذا كان القارئ يتوقع أن تغلق الساردة النافذة خوفاً من الرياح، أو خشية على البيت النظيف من الغبار، فإن السرد السابق يتجه إلى سبب آخر، بعيد كلياً عن منطق الفانتازيا الذي يحكمه حتى الآن، إذ يدخل لص النهار، بطل رواية راشد، المشهد على حين غرة، ويصبح جزءاً من أرق الساردة الذي لا ينتهي إلا بانتهاء الحكاية حين تعود إلى وعيها في المستشفى:

  • “فتحت عيني ورأيت البياض يحيطني، مستلقية على سرير في المستشفى وأنبوب شفاف متصل بإبرة مغروسة في كتفي الأيمن. أمي تجلس على الكرسي وبجوارها أبي”، ص186.
  • “قبّلني راشد على رأسي، وهو يبدو في غاية الانفعال، كان الجميع يبكون، كان والدي يبكي، العميد حمدان بن مطر يبكي. ماذا حدث؟ أخبروني بأنني كنت غائبة عن الوعي لثلاثة أيام. غسلت كليتي مرتين، ووظائفي الحيوية كانت لا تعمل جيداً. لكنّ الطفلين بخير”، ص187.

 

مريم: بين حاضر راشد بن غراب وماضي حمدان بن مطر:

لم تكن مريم المأزومة على مدى صفحات الرواية مطمئنة إلى مستقبلها، فقد عاشت ماضيها في كنف أبيها حمدان، وهي تحمل فوق كتفيها الصغيرتين أصفاد مجتمع كامل، كما عاشت حاضرها في كنف زوجها راشد الذي شارك في صنع قلقها مِن قادمٍ يعوزه الاطمئنان والاستقرار، وقد تجلّى هذا القلق بنائياً في الاستذكارات التي تجسّد الماضي، والاحتمالات التي تكتنف الحاضر والاستباقات التي لا تثق بالمستقبل.

فإذا بدأنا من الماضي وجدنا سلطة الأب الطاغية، حتى من خلال سلطة الأم التي كانت “مثل كل الأمهات”، ص15، تمثّل، بدورها، صوت الأب وسوطه؛ إذ لا حرية أبداً للأنثى، إلا في طفولة مبكرة سرعان ما تمضي، (“أذكر أنني كنت ألعب مع أبناء الجيران حتى سن الثامنة”، ص132)؛ لتسلمها إلى قيد النضج المبكّر الذي يؤجل حريتها: “غداً تتزوجين وتفعلين ما تريدين.. المرأة ليس لها سوى بيت زوجها”، ص18.

من هنا وقر في ذهن الطفلة مريم أن الأحلام الجميلة ممنوعة، والخيالات ممنوعة، وكذلك المغامرات وقصص الحب؛ لأنها عرضة للاختراق من قبل الرقيب:

“أعيش بعض المغامرات في رأسي، واحلم بقصة حب لكنها دوماً لا تكتمل، تتوقف لحظة تخيلي أن أمي ستعرف وتقرأ أفكاري المنحرفة في عيني”، ص132. كما وقر في ذهن أمّها أن للطفلة صورةً نموذجيةً، لا ينبغي أن تُخدش: “كنتُ طفلة مرتبة ونظيفة في جميع الصور”، ص133؛ لذلك من الطبيعي أن تستاء الأم من وجود صورة لابنتها بشعر منكوش، بغض النظر عن الحيوية والعفوية والنشاط، وكل المؤشرات الإيجابية التي تعنيها تلك الصورة: “هنالك صورة وحيدة أبدو فيها بشعر منكوش التقطت في المدرسة، حين كنت أشارك في سباق للجري (…) شعرت أمي بالخيبة حين شاهدت الصورة ولامت نفسها؛ لأنها لم تثبت شعري بمشابكك متينة”، ص133.

لقد فقدت مريم، إذاً، طفولتها عنوة وعاشت حرية مؤجلة، فلا هي قادرة على العودة إلى طفولتها؛ إذ تتأمل دمى مصفوفة في واجهة، ولا هي قادرة أن تعيش صباها؛ إذ تضع مرطباً على شفتيها:

  • “توقّفتُ أمام الدمى المصفوفة بملابسها الأنيقة وشعورها المسرّحة على الموضة. نادتني أمي بصوت عال، وهي تبحث عني في المحل. سرتُ سريعاً نحو القرطاسية وتظاهرتُ بأني أتفحّص الدفاتر وحافظات الأقلام”، ص148.
  • “ابتعت يوماً بيجاما ومرطب شفاه بطعم التوت من ماركة لابيلو. قالت: إن البجاما رخيصة ولا يجدر بي ارتداؤها، والمرطب يجعل شفتي ورديتين وأنا لا زلت صغيرة على وضع أحمر الشفاه”، ص179.

من أجل ذلك كان عليها؛ حتى لا تضبط بجرم ارتكاب الطفولة والصبا أن تعوّض ذلك لاحقاً، فتشتري دمية باربي، وهي في الجامعة، زاعمة أنّها “هدية من عزّوه الأخت الصغرى لصديقتي هدى”، ص164، وتملأ أدراج خزائنها، بعد زواجها، بكل أنواع المكياج، لا لحاجتها إليها جميعاً، بل لأنها تسدّ عقدة نقص عاشتها في صباها: “عقدة نمتْ معي منذ شهدتُ البنات حولي يُسمح لهنّ بوضع الماكياج الخفيف، وأُمنع حتى من إزالة شعر شفتي العلوية”، ص51.

فإذا وقفنا أمام المقتبس السابق لفَتَ نظرنا استخدام الفعل (أُمنَعُ) بصيغة المبني للمجهول، على الرغم من إدراكنا الفطري، أنّ الأمّ هي واسطة المنع المباشرة التي تخفي سلطة مجهولة، لا تتمثل في الأب وحده، بل في مجتمع يترصّد خروج الطفلة الصغيرة عن صراط السائد الاجتماعي. أمّا الأب فقد بقي صورة خارج الإدراك، حتى الصفحة الأخيرة، لأنه كان أبعد من تدركه طفلة لا يسمح لها، بالاقتراب من ملكوته:

“بقي هذا الوالد بعيداً، لا أعرف كيف أتحدث معه، ولا كيف أحبه (…) في طفولتي كان كلما دخل البيت أخذتني أمي إلى الغرفة، وطلبت مني التزام الصمت؛ لأنه متعب، وقد عاد من عمله، ويحتاج للراحة”، ص123.

(يتبع)…

…….

هوامش:

(1) فرانكشتاين” عنوان رواية كتبتها الكاتبة الإنكليزية ماري شيلي (1797ـ1851م)، وهي تدور حول عالم شاب يخلق مخلوقاً غريباً ضخماً في تجربة علمية فريدة، ثم يقوم هذا المخلوق بالانتقام من فرانكشتاين نفسه؛ خاصة بعد أن رفض فرانكشتاين أن يصنع له امرأة من جنسه، فيقتل أقرب الناس إليه (أخاه وصديقه وعروسه)، ثم ينتهي المخلوق المسخ منتحراً نادماً على ما صنعته يداه، بعد موت صانعه.

(2) كنوت هامسون (1859ـ 1952م): كاتب نرويجي على جائزة نوبل للآداب، حققت له روايته “الجوع” شهرة عالمية واسعة، وهو يدين فيها الحضارة المادية، ومظاهرها البراقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى