قراءة انطباعية في قصيدة “أعوذ من الكبائر “للشاعرة ثناء حاج صالح

الشاعر رائد عيد / سوريا

القصيدة الشعرية؛ كتلة لاشعورية من ذات الشاعر، تحمل في تركيبتها البنيوية، والفكرية، صورة طبق الأصل عن الحراك الشعوري لحظة الكتابة.
أي أنها عملية تثبيت لواقع اللاشعور لحظة الكتابة، مثل الصورة الفوتوغرافية بالضبط.
وهي عالم حافل بالدلالات، غني بالأفكار والإيحاءات والرموز.

الهيكل الأساسي للقصيدة هو الفكرة المركزية، التي ترتكز عليها منظومة معقدة من الأفكار الثانوية، التي تعطيها الصورة النهائية.
وعلى عكس ما يتوقع القارئ، فإن الفكرة المركزية للقصيدة، ليست أكثر قيمة من الأفكار الغزيرة التي تدور في فلكها، إذا قصدنا الإبحار في عوالم الشاعر والغوص في عمق ذاته واكتشاف أسرار الدلالات التي بنى عليها هذا المنتج الفكري المعقد.
فتفكيك النص يحتاج إلى نظرة ثاقبة، ورؤية تحليلية عميقة التصور! بعيدة الأفق، وهذا ما لا نجده في فكرة القصيدة المركزية، التي يتحكم فيها الشاعر، ويخرجها لنا بالشكل الذي يريد لنا أن نتصوره.
نحن بحاجة إذن إلى الوقوف على التفاصيل الصغيرة، الهاربة من مقص الرقابة، الذي شذب به صاحبنا قصيدته.

إن أكثر ما يغري القارئ، ويوقفه مليا أمام نص شعري، ويحرضه على المضي قدما في قراءته مرة تلو الأخرى؛ هي الصورة الانطباعية الأولى للنص، فكلما زادت دهشته واتسعت مجالات التخيل، كلما زاد شغفه باكتشاف عوالمه والغوص فيها.
وهذا بالضبط ما جعلني أتوقف مليا أمام قصيدة ” أعوذ من الكبائر بالكبير” للشاعرة المبدعة ثناء حاج صالح.
وهي قصيدة تستحوذ على القارئ، بصورها المدهشة، وإيحاءاتها الذكية، وأسلوبها السلس، وبنيانها المرصوص.

تعتمد الشاعرة في معظم نصوصها على التراكيب البلاغية المقتضبة، بأقصى طاقة إيحائية ممكنة، لتثبيت دعائم فكرتها، وعرض فلسفتها، وإقناع القارئ بجدواها العملية في الحياة، فهي فلسفة تجريبية، نابعة من معاناة واقعية، وتجربة ذاتية، استهلكت منها مجهودا شخصيا، واستنزفت من وقتها.
وعلى هذا؛ تنطلق الشرارة الأولى من القصيدة، بأقصى قوتها الإشعاعية، كلمح البرق الذي يتقدم سيلا من وابل المطر الغزير.
وقبل تناول القصيدة، ومقدمتها الرائعة والمدهشة؛ سأعرج قليلا على هيكلية القصيدة بشكل عام :

تقسم القصيدة، أفقيا، إلى ثلاث أقسام رئيسية هي: المقدمة والعرض والخاتمة.
كما أنها تقسم، عاموديا، إلى ثلاث أقسام هي:
أنا الشاعر وأنثى القصيدة والموضوع.
وكلما تمايزت هذه الأقسام، عاموديا، وأفقيا؛ كلما حققت القصيدة هدفها، وعبرت عن الشاعر، وشدت من رباط ذاته، بالذات الجمعية، واتسعت بالتالي مجالات الرؤيا أمام القارئ.
وهذا مايميز نصوص الشاعرة ثناء حاج صالح بشكل عام، وهذا النص الرائع بشكل خاص.

بالنسبة للتقسيم الأفقي للنص : فهو نص متمايز، يقسم إلى ثلاث كتل شعورية، واضحة التمايز، متصلة بشكل متين، وأسلوب ذكي، مع بعضها البعض بخيوط حريرية دقيقة ولكنها متينة.
القسم الأول يبدأ من المطلع مع البيت الثاني ليشكلا مقدمة الفصيدة:

ألا يا حُزْنُ واجِهْني كَفَرْدٍ
وليس كَفَيْلَقِ الجيشِ المُغيرِ

فإنَّ وَراءَ إقداميْ انْكساراً
أُعَرِّضُهُ لِجَبَّـارِ الكُسورِ

بكل ذكاء، وبمقابلة بديعة، انزاح المطلع باتجاه تحديد أقسام النص، عاموديا من المقدمة، بأسلوب إيحائي، غني بالدلالات والرموز، التي تدخلنا مباشرة بجو القصيدة العام.
فأنا الشاعر هنا؛ أنا متعبة من تناقضات الحياة، ومن المواجهة المستمرة لمصاعبها، ولكنها أنا صبورة، مصممة على المضي قدما، رغم كل الهزائم، ورغم كل الانكسارات.
فهي إذن ،أنا مشبعة بالإصرار على الحياة، رغم قسوتها.
أما أنثى القصيدة فهي الذات الإلهية، التي تمدها بإكسير القوة، وتعطيها المزيد من الخيارات والسبل، لتزداد صلابة وبأسا، في مواجهة الصعاب. هذه المواجهة؛ هي موضوع القصيدة، وبالتالي، فقد مايزت الشاعرة بدقة وحنكة وذكاء  ذاتها، بمقدمة مقتضبة، قابلت فيها ذاتها المتعبة مع جيوش الحزن والمآسي، الذي تعرضت لها، بأسلوب إيحائي مبهر، وأدخلت القارئ في معركتها مع الحياة، بأقصى طاقتها الإبداعية، لتلتحم ذاته مع ذات الشاعرة وتبدأ الرحلة السندبادية للقسم الثاني من القصيدة :

نَحَتُّ بِوَهْمِ إِزْمِيلِيْ غِياباً
يُواعِدُني بِآمالِ الحُضورِ

وما إن ناصبتْ عَينيه عَيْني 
ذُبِحْتُ مِنَ الحريرِإلى الحريرِ

وبِي من كُلَّ ما يُغْوِي فَراشاً
من التَيَهانِ في الوَهْجِ المُثيرِ

على أنَّ الجِماحَ بِكفِّ كَبْحٍ
ولا يقفو مَفازاتٍ مَسيري

يُراقُ دَمٌ بِمَعْرَكةِ التفاني
على أعتابِ مَقَبَرِةِ الشُّعور

ولا أرضى السعادةَ باجتراحٍ
لما آثرتُ من طُهْرِ الضمير

ويرضى الخاسرونَ إذا نِفاقٌ
تَوَصَّل بِالتَّمَلُّقِ للسُّرورِ

نظرتُ بكل نافذةٍ تخلَّتْ
عن الرَّيحانِ في عطرِالأثيرِ

وكل قرنفل عانى ذبولاً
وكلُّ قطيفة بين السطور

مَخافَةَ أن يَمسَّ النفسَ مَسٌّ
من الوسواسِ بيَّاعِ العطورِ

وقد أُعلِمتُ أن الحُلوَ مُرٌّ
وأنَّ الصَّبْرَ من عَزْمِ الأمورِ

وتسليما لذكرِ الله  قلباً
يَعوذُ من الكبائرِ بالكبير

بعد أن قدمت الشاعرة في المقدمة كتلة من مشاعر الإصرار والتحدي، رغم كل الصعاب، تعود بنا بشكل مفاجئ إلى حالة الانكسار، في القسم الثاني من النص، حيث تقدم الأعذار، وتشرح الواقع المرير، الذي تعاني منه الذات العربية بشكل عام، في مهب رياح الهزائم والتشظي والشتات، هي ذات منكسرة غريبة متغربة،فتعبر عن هذه المشاعر بأسلوب بلاغي واعي ومثقف، يهمل التفاصيل الصغيرة، ويناقش الأسباب والمسببات، حيث اعتمدت على المقابلات والكنايات والاستعارات والتناص.

نَحَتُّ بِوَهْمِ إِزْمِيلِيْ غِياباً
يُواعِدُني بِآمالِ الحُضورِ

وما إن ناصبتْ عَينيه عَيْني 
ذُبِحْتُ مِنَ الحريرِإلى الحريرِ

مقابلة بديعة في البيت الأول هنا، أردفتها بصورة حركية مكتملة، ناضجة، تضج بالحياة، رغم قسوة الاستعارة، والتي أخرجت مكنونات الحزن والقهر، دفعة واحدة في عجز البيت الثاني.

وبِي من كُلَّ ما يُغْوِي فَراشاً
من التَيَهانِ في الوَهْجِ المُثيرِ

على أنَّ الجِماحَ بِكفِّ كَبْحٍ
ولا يقفو مَفازاتٍ مَسيري

وتعود لهجة التحدي مجددا، أمام لهيب المغريات التي نتعرض لها في الحياة والتي ستحرقنا بمجرد الاقتراب منها.

يُراقُ دَمٌ بِمَعْرَكةِ التفاني
على أعتابِ مَقَبَرِةِ الشُّعور

ولا أرضى السعادةَ باجتراحٍ
لما آثرتُ من طُهْرِ الضمير

ويرضى الخاسرونَ إذا نِفاقٌ
تَوَصَّل بِالتَّمَلُّقِ للسُّرورِ

نظرتُ بكل نافذةٍ تخلَّتْ
عن الرَّيحانِ في عطرِالأثيرِ

وكل قرنفل عانى ذبولاً
وكلُّ قطيفة بين السطور

مَخافَةَ أن يَمسَّ النفسَ مَسٌّ
من الوسواسِ بيَّاعِ العطورِ

وقد أُعلِمتُ أن الحُلوَ مُرٌّ
وأنَّ الصَّبْرَ من عَزْمِ الأمورِ

وتسليما لذكرِ الله  قلباً
يَعوذُ من الكبائرِ بالكبير

وتبدأ هنا الشاعرة، بالولوج في عوالم أنثى القصيدة، وهي الذات الإلهية، التي كنت عنها بالفضيلة، أو مجموعة الفضائل، التي عالجتها بهذه الأبيات، والتي تمدها بإكسير القوة والثبات، في معركتها مع الحياة بمصاعبها، ومغرياتها المزيفة، إلى أن تصرح بها بآخر بيت بشكل مباشر :

وتسليما لذكرِ الله  قلباً
يَعوذُ من الكبائرِ بالكبير

تأسيسا للدخول في خاتمة القصيدة الغنية بالحكمة والموعضة.
والتي تبدؤها الشاعرة، بتناص بديع مع معلقة زهير بن ابي سلمى :

هو المعلومُ في عَشْواءِ خَبْطٍ
ومِشْكاةُ التَّبَصُّرِ للضَّريرِ

كريمُ الوجهِ إن يقصِدْه عبْدُ
تَجَلَّى اللهُ للعَبْـدِ الفقيرِ

ومن أرجوه غُفراناً لذنبي
وأين الذنبُ من ربٍ غَفورِ

وفقت الشاعرة، بشكل كبير، بإيصال رسالتها الأدبية، بأسلوب سلس، غني بالتصوير، مطرز بالبديع والجماليات.

إلا أن التواتر بين العمق والمباشرة أضعف التعبير في بعض المواقع وأربك القارئ،

ويرضى الخاسرونَ إذا نِفاقٌ
تَوَصَّل بِالتَّمَلُّقِ للسُّرورِ

ثم أن مباشرة الخاتمة الصارخة والواضحة، ولو أنها لا تعيب النص، ولكن كان بمقدور شاعرتنا، أن تحيكها بأسلوب مشابه للمقدمة والعرض، لتكون القصيدة كتلة متماسكة، بانسيابة عالية، ودفق شعوري غزير من البداية للنهاية.
وهذه ملاحظة لا تعيب النص مطلقا، فالنص المكتمل لم يكتب بعد.
النص رائع، ويغري بالمزيد من القراءة، والتفكيك، ولكن سأكتفي بالقراءة الانطباعية.
وأشكر الشاعرة المبدعة، على هذا الجمال الأخاذ، في تقديم الشعر بصورة بديعة، وأعتذر عن التقصير بحق النص، فهو يحتاج إلى وقفة أطول وقراءة أعمق.
كل الأمنيات بدوام التألق والنجاح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى