هل كذب الخليل، أم كان الرواة هم الكذابين، عندما قيل إنه استعمل بحر الخبب في ضربين رويا عنه في ديوانه المصنوع؟!

سليمان أحمد أبو ستة | فلسطين

في نموذجه العروضي ذكر الخليل خمسة عشر بحرا مستعملا، ولم يذكر من بينها اثنين هما المتدارك والخبب. ومع أن الدوائر التي استنبطها في هذا النموذج كانت تتيح له أن يستخرج منها بحورا غير مستعمله، أسماها مهملة، إلا أن بعض اللاحقين استخرج  من دائرة المتفق بحرا، فمنهم من سماه الغريب، ومنهم من سماه المتدارك، وأخرون أسموه الخبب، .. أو دق الناقوس أو المتداني أو المتقاطر أو المحدث … أو .. أو ..إلخ.وهذه الأسماء هي جميعها لمسمى واحد اشتهر منها المتدارك الذي ألصق استدراكه بالأخفش بلا دليل عليه.

ولم يكن للخليل ديوان، ولكن بعض أهل العلم حاول أن يصنع له من شذرات ما روي له ديوانا. ومن صانعي هذا الديوان أساتذة جامعيون يفترض فيهم العمل بشروط البحث العلمي، أو على الأقل أن يتفحصوا كل كلمة رويت عن الخليل ويختبروا صدقها أو كذبها، فالخليل ليس من مجهولي الحال حتى يلبسوه كل رواية ألصقوها به.

ولعل  أول هؤلاء الذين خدعوا برواية مدسوسة على الخليل هو ابن عبد ربه (ت 328 ه) في عقده الفريد، صدقها المسكين وقال في أرجوزته العروضية:

182- هــذا الذي جَرّبــه  المُجَرّب 

مِن كُلّ ما قالت عَليـه  العَـرَب

183- فكلّ شَـيء لَـم يُـقَـل علَــــيه 

 فإنّـنـا لم نلتفت  إلَيه

184- ولا نقول مثلما  قـد   قالوا 

 لأنّه من قَولنا  مُحال

185- وأنّه لَــو جاز فــي  الأبيـات

خِلافُهـا لجاز في  اللُغات

186- وقد أجاز ذلك الخليـــــــــــل

ولا أقول فيه ما  يقول

187- لأنه ناقض  في  معـنــــاه 

والسيف قـد ينبو وفيه  ماه

188- إذ جَعَل القَول القديم أصلـــه 

ثمّ أجاز ذا وليس مثله

189- وقد يَزِلّ العالم  النِحريــــــر 

 والحَبر قد يَخونه  التَحبير

190- وليس للخليل مــن  نَظيــــر

في كُلّ مـا يأتي مِن الأمور

191- [لكنّه] فيه  نَـسـيجُ وَحدِه

مـا مثله من قبله  وبعـده

ومع أنه كان يجب أن يظل على موقفه الصلب في إيمانه بعلم الخليل، وأنه ليس ممن يتخلى عن مبادئه بسهولة، إذا قيل عنه رواية مكذوبه، إلا أنه بدا مزعزع الإيمان في هذه الأبيات، ورغم الحرقة التي تبدو  في كلماته تراه في البيتين الأخيرين منها يحاول أن يستعيد الثقة بالخليل.. ولكن هيهات، فقد تمكن منه الراوي المخادع الذي صدقه في أسرع من شربة ماء.

وكان عروضي آخر معاصر لابن عبد ربه، ولكنه هذه المرة من الشرق، وهو النديم المكنى بأبي الحسن أحمد بن محمد والملقب أيضا بالعروضي (ت 342 ه)، كان هذا العروضي يحاول أن يلتمس له خروجا على آراء الخليل فقام بكل جرأة وجسارة يعدل بجرة قلم القيود التي وضعها الخليل على بحر المتدارك (والتي كانت تمنعه من ارتكاب القطع في الحشو والعروض) وقد أتاح له هذا العمل الجسور فرصة إثباته زورا زحاف القطع وليس فقط علته، في الحشو ثم صنع له شاهده مما تيسر له من كلمات ذلك البحر الغريب.

والآن من أين أتى ابن عبد ربه بفرية تعديل الخليل في أقواله الرسمية بشأن زحاف وعلة بحر المتدارك (هذا إذا كان يرضى استدراكه أصلا!) وهنا قد يقفز إلى الذهن أن أبا الطيب اللغوي صاحب مراتب النحويين والمتوفى عام 351 ه ذكر الرواية التالية، قال:

“أخبرنا محمد بن يحيى قال أخبرنا محمد بن الرياشي قال حدثنا أبو علي إسماعيل بن أبي محمد اليزيدي ( ت 263 ه) قال: أخبرني أصحابنا أن للخليل بن أحمد قصيدة على فعلن فعلن (ثلاث متحركات وساكن) وأخرى على فعلن فعلن (بمتحرك وساكن) فالتي على ثلاث متحركات قصيدته التي فيها:

سئلوا فأبوا فلقد بخلوا

فلبئس لعمرك ما فعلوا

أبكيت على طلل طربا

فشجاك وأحزنك الطلل

والتي على فعلن (ساكن العين):

هذا عمرو يستعفي من

زيد عند الفضل القاضي

فانهوا عمرا إني أخشى

صول الليث العادي الماضي

ليس المرء الحامي أنفا 

مثل المرء الضيم الراضي

فاستخرج المحدثون من هذين الوزنين وزنا سموه “المخلع”(!) وخلطوا فيه بين أجزاء هذا وأجزاء هذا”.

وأول ما يتبادر إلى الذهن أن هذه الرواية الضحلة في أسلوبها السخيف والذي نربأ بالخليل عن استخدامه شاهدا على بحر رفضه، هو ما يبدو من قرب بينها وبين بيتي أبي العتاهية التاليين (ديوانه ص 500)

هم القاضي بيت يطرب

قال القاضي لما عوتب

ما في الدنيا إلا مذنب 

هذا عذر القاضي واقلب

نخلص من ذلك كله إلى أن المطلوب من كل رواية يراد إثباتها في الدفاتر، أن يتم إخضاعها لمقياس نقدي دقيق يبين الصواب منها من الخطأ قبل أن يستفحل الأمر في أذهان الناس ويصبح مع مضي القرون حقيقة ثابتة لا تحتمل التكذيب.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. سؤال من شقين لأستاذي الكريم
    1- هل أطلق الخليل مصطلح ( البحور المهملة ) ؟
    2- إن كان هو م أطلق هذا المصطلح فهل هو من اعطى تلك البحور أسماءها ؟ وإن يكن هو من أعطاها أسماءها فلماذا استثنى إعطاء اسم للمتدارك ؟

    د. محمد الخاقاني يفول إن الخليل لم يذكر المتدارك لأنه ينقض نظريته في عدم جواز القطع في الحشو
    أبو الحسن العروضي أجاز القطع في حشو المتدارك
    السؤال الذي يخطر لي لماذا توقف حديث الخاقاني وأبو الحسن على المتدارك ولم يعمماه بالقول
    فقطع المتدارك في الحشو هو عينه : فعْلاتن فعْلاتن فعْلا(من الرمل)
    وهو عينه : فعْلاتن فعْلن فعْلاتن ( من المديد)
    وهو عينه : مستفْعلْ مستفعل مفعو ( من السريع)
    ونظائر ذلك كثيرة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى