الارتقاء الإنساني.. أين الحقيقة؟

أ.د. محمد سعيد حسب النبي | أكاديمي مصري
جلس عالِم وحكيم يتجاذبان أطراف الحديث حول الخلق ونشأة الإنسان؛ فقال العالِم: “إن الأرض التي نعيش عليها كانت كرة ملتهبة يلفها دخان كثيف، ثم بردت قشرتها واستقرت طبقاتها، وحدثت المعجزة بوجود الخلية الأولى طافية على وجه الماء، فتناسلت وتكاثرت وتنوعت صور الحياة وعمل فيها قانون الانتخاب وبقاء الأصلح، وبلغ الارتقاء قمته بظهور الإنسان على الأرض فكان آدم. فأطرق الحكيم ثم قال: رغم أن آدم أرقى المخلوقات؛ فإن طبيعته تتقلب بين الإفساد والإصلاح، ويتقلب في شؤون الحياة بتقلب عواطفه وعقله وقلبه. ومن طبيعته الفريدة الاستعداد لمعرفة الأشياء خيرها وشرها ومنافعها ومضارها. وانقلاب عيش الإنسان من الرغد إلى الشقاء ملازم لطبيعة الإنسان، وقد كانت المخلوقات قبله لا تعرف خيراً ولا شراً، وليس لها ضمير يحثها على الخير ويؤنبها على الشر، فلما ارتقت للطبيعة البشرية أدركت خيراً وشراً، وتحرك فيها الضمير يحاسب.. فيثيب ويعاقب.
ووجدان الشاعر والموسيقي والفنان والصوفي مظهر آخر من مظاهر الارتقاء الإنساني؛ فقد رُزق هؤلاء مزاجاً فطرياً جعل تلقيهم لنواحي الجمال حولهم تختلف عن الآخرين، إنهم يرون أن الدنيا كلها جمال مُقَنَّع، ولابد أن نكشف القناع حتى نرى الجمال، وأن حقائق العالم مستورة، وأن مظاهره ليست إلا أعلاماً يُستدل بها على خفاياه، وأن قيمة العالَم في باطنه، وليس ظاهره إلا رمزاً له، وأن الجمال المكشوف ليس جمالاً، والحقيقة الجلية لا تلذ بها النفوس الكبيرة، وأن البحث عن الحقيقة ألذُ من الحقيقة نفسها، وأن جمال الجميل في بُعده، تنظر إليه وكأنك لا تنظر، وتقرُب منه وكأنك لا تقرب، ومعالجته ينبغي أن تكون من جنس طبيعته، تدل عليه وكأنك لا تدل، بالرمز والإيماء وباللمحة تجعلك تسبح في خيالك، وبالإشارة تستدل بها على الطريق بجهدك؛ ومن أجل هذا كان الفرق بين تعبير العلم وتعبير الشعر والموسيقى والتصوف؛ فتعبير العلم واضح محدود، يفهمه الناس بوضوح، ويفهمونه على السواء متى تحقق شرط الذكاء. أما الشعر والموسيقى والتصوف فتعبير في غير استقصاء ورمز في غير جلاء، كلٌ يرمز بما يهوى، وكلٌ يفهم كما يشاء، حسب مزاجه وظروفه ونفسيته. من أجل هذا أيضاً كانت اللغة أداة طيعة للعلم وأداة مسكينة للفن والتصوف.
إن الفرق بين العالِم والحكيم يكمن في أن الأول يعتمد على حواسه وعقله ومنطقه في معرفة الحق وقد حُدّ بزمان ومكان، والآخر يُجلي مرآة نفسه حتى تنطبع فيها الحقيقة مجردة عن الزمان والمكان، الأول يلتصق بالأرض والثاني يحلق في السماء، الأول يضجر بضيق الأفق والثاني ينعم بصدر براح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى