مهارة توكيد الذات

 

رحاب يوسف | كاتبة وتربوية وقاصة فلسطينية 

إذا استطعت فعلَ ما تريد دون مداهنة، أو نفاق، أو مجاملة، فأنت امتلكت مهارة “توكيد الذات”، وهي أن تقول ما تشعر به، وتفعل ما تشعر به، تستطيع أن تقول (لا) في الوقت المناسب، فلا تسكت، ثم تسكت، ثم تسكت، فيتحول سكوتك إلى حقد .
كيف يكون لدينا قدرة على مواجهة الآخرين دون تجنٍّ أو ظلمٍ أو تجاوز حدود الأدب، إنما بطريقة لبقة مؤدبة؟ لماذا لا يستطيع الناس التعبير عمّا في ذواتهم ودواخلهم؟ الأسباب كلها تعود إلى الثقافة التي تربوا عليها، ثقافة احترام الكبير ثقافة عربية أصيلة، “ليس منا مَن لم يوقر كبيرنا”هذا عظيمٌ، يجب احترام الكبير، فالكبير أيا كان نرى فيه الأب والعم والخال، لكن ما حدود هذا الاحترام؟ هل حدوده ألّا أستطيع أن أقول رأيي لأنني لا أبدي وجهة نظري؟ لا تضخّم الكبير، ولا تقزّم نفسك، عندما تقارن نفسك بكبير أنت تصغر، وعندما تقارن نفسك بصغير أنت تكبر، كلما عملقت الناس هِبتهم، ولم تكن قادراً على مواجهتم، قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – “أنزلوا الناس منازلهم”، ومنازل الناس أن تعطيهم احترامهم دون تقزيم نفسك.
نحن نسوّق للصمت وثقافة الصمت، إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”، الخيار الأول فليقل! إذا لم يقل خيراً يصمت، لكن نحن نسوق في مدارسنا للصمت، انظر إلى المدارس من يأخذ جائزة الطالب المثالي هو من لا يتحرك، ولا يتكلم، ولا يناقش، ولا يحارش، ولا يعترض، لكن من يناقش أستاذه ويعترض نسميه المزعج! فنقصيه ونحرمه من الرحلات والحوافز؛ لأنه يوجع رؤوسنا ويؤكد ذاته، والناس لا تحب من يؤكد ذاته.
ومن أسباب عدم امتلاك ثقافة أو مهارة توكيد الذات أن الناس تستهجن الإنسان القادر على توكيد ذاته، فتضطر لخلع شخصيتك القوية، ولبس الثوب الذي يردونه، ولبس الشخصية التي تتحرك بالريموت كنترول، عندها أحسن الله عزاءك في قوة شخصيتك، إذا رَبّيتَ أولادك على قوة توكيد الذات قويت شخصيتهم وصعبت تربيتهم، وإذا أضعفنا توكيد ذواتهم سهلت تربيتهم، وصعبت حياتهم.
من آثار ضعف توكيد ذواتنا تعطيل شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والله -عز وجل – يقول: “حتى يخوضوا في حديث غيره”عندما لا تنكر، ولا تذكّر، ولا تأمر، ولا تنهى، ولا تعبس، ولا تحاول، ولا تقوّم، إذن أنت مثلهم؛ لأنك لا تستطيع قول (لا) بسبب ضعف توكيد الذات، يقول الترمذي: يقول الرسول – صلى الله عليه وسلم – “لا يحقّرنّ أحدكم نفسه، قالوا: يا رسول الله كيف يحقّر أحدنا نفسه، قال: يكون في مقام لله فيه مقال ثم لا يتكلم، فيقول الله له يوم القيامة: يا عبدي، لِمَ لا تتكلم؟ يقول: يارب، خشيت الناس! فيقول: الله أحق أن تخشى”، وبعد ذلك فإنّ ضعفَ توكيدك لذاتك يؤثر في دينك وعملك، ومن قال: نعم دائما للآخرين، كأنه قال (لا) لأهدافه وحياته وأسرته؛ لأن معظم جهده مصروف للناس.
أرعبني ما سمعته من إحدى الطالبات: “فلانة وذنباتها”، تقصد المعلمة المسؤولة عن مجموعة معلمات، كانت هذه المعلمة تسمّي المجموعة بـ”هيئة الأمم”، ومن شروط انتماء المعلمة لها خدمة القائدة المسؤوولة، كإعداد الفطور لها في الاستراحة، ومساعدتها في الأعمال الكتابية، سحب نقود لها من البنك، التجول معها في المدينة إذا احتاج الأمر، حتى وإن كانت المعلمة حاملاً وفي شهرها التاسع! وكانت القائدة تتلذذ في تعذيب إحدى المعلمات معنوياً، كنت أراها وهي تبكي وتزمجر وتزبد في غياب القائدة، وفي حضرتها تبدي انكساراً لم أجد له أي تفسير، كانت القائدة تحرّض المعلمات عليّ؛ لأنني لا أبدي لها الأمر والطاعة، بل كانت تتوسل إلى صديقاتي أن يتركن صداقتي ويبتعدن عني.
إذا لم تستطع أن تتكلم، وتبدي رأيك، و تعترض، وترفض أن تُسمِع، ستصبح حفرة تُلقى عليها جميع المهام؛ ستصبح كالجندي المجهول، لا أحد يدري عنك، في الوقت الذي تذهب فيه الترقية والامتيازات لغيرك، ومن لا يستطيع التعبيرعن نفسه يحتقره الناس ويُهان، ألم تسمع قول الله على لسان فرعون عندما اختار موسى الكليم؛ ليكون رسولا إلى بني اسرائيل “أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين”الزخرف 52، أي أن سيدنا موسى لا يستطيع الإفهام والتكلم.
وعلى مستوى التربية يؤثر عدم توكيد الذات على ابنك، إذا سألته: “أتحب أمك أكثر أم أباك”، يقول لك: “الاثنين”، وفي الحقيقة يريد أن يقول: “أمي”، علّم ابنك أن حبّه لأحدهما لا يعني كرهه للآخر، فلا تصادر مشاعره، ولا تغيرها، علّم ابنك أن ألعابه ملكه إذا أخذها غيره، فلا تقول له: “هذا عيب، اجعل الأطفال يلعبون بألعابك”، وتقتحم خصوصيته فتضعف شخصيته من أجل الآخرين.
الكثير من الناس يهاب سؤال الشيخ، والرسول كان يقول: “إياكم والجلوس في الطرقات، فيقولون مجالسنا ما لنا بدٌّ يا رسول الله”، يردّون لأنهم تربّوا في مدرسة محمد – صلى الله عليه وسلم – ومن ثم أمِنوا ردة فعله، الكثير من الطلاب لا يجرؤ الاعتراض على أستاذه.
سأل عمرٌ الصحابةَ: (“أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ”، فيمن نزلت؟ وفيم نزلت؟ فيقول ابن عباس: في نفسي منها شيء، فيقول له عمر: قل ولا تحقّرنّ نفسك)، اعترض، ابدِ رأيك، فلا تحتمي بمبررات للهروب من قول (لا)، صادق (لا) وتقبّلها، فتعامل مع أبنائك كما تتعامل مع أبناء الغرباء، احترم ابنك في الخفاء يحترمك أمام الناس.
العلاقات العامة لا تنجح إلا بخليطٍ ومزيج بين الحقوق والواجبات، نجاحك في أية علاقة أن تعرف حدودك وحقوقك، من حقك أن تنقُدَني، لكن ليس من حقك أن تسخر مني، من حقك أن تعطيني وجهة نظرك، لكن ليس من حقك أن تجبرني، في أحد المختبرات العلمية قام مجموعة من العلماء بإجراء أبحاثٍ على الدجاج، فوجدوا أربعة أنواعٍ: النوع الشرس الذي يَنقر نوع (ب ، ج ، د)، ونوع (ب) يَنقر (ج ، د)، ونوع (ج) يَنقر (د)، ونوع (د) يُنقَر ولا يَنقُر، في كل بيت وجمع أو صف أو مؤسسة تجد الأنواع (أ ،ب ، ج ، د)، النوع (أ) يخافونه الناس مثل سمكة قرش، ولا أحد يقترب منه، والنوع (د) موجود من أجل السخرية والضحك عليه، ثم إرضائه هذا النوع لا يرسم له حدوداً فيُقتَحم.
وفي المقابل ينبغي تحجيم استحقاق الإنسان، يولد الطفل فيشعر أن الكون حقه، يذهب إلى السوق فيشعر أنه يريد هذا وهذا، إذا جاع بكي، وإذا غضب صرخ، وإذا تضايق زمجر، علينا تصغير حدوده حتى يشعر أنه لا يملك من هذا الكون إلا الشيء الصغير، حتى لا يعتدي على حقوق الآخرين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى