الإشباع أو مطل الحركات بين التأصيل والتوظيف

 

د. أيمن العوامري| باحث في اللغة والأدب

الإشباع ظاهرة صوتية تتمثل في امتلاء الفم بصوت الحركات القصيرة (الفتحة، الكسرة، الضمة)؛ ما ينجم عنه توليد حركة طويلة ممطولة؛ وهي المعروفة بحروف العلة (الألف، الياء، الواو)، وقد شاعت هذه الظاهرة في لغة أهل الحجاز، وهي مقصورة على موضع بعينه في الكلمة؛ سواء أولها أم حشوها أم طرفها؛ ومنه قوله تعالى على قراءة الحسن: {سَأُورِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ} [الأعراف: 145]؛ بإشباع ضمة الهمزة في (أريكم)، ورواية أحمد بن صالح عن ورش: {مَالِكِي يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة: 4]؛ بإشباع الكسرة في (مالك)؛ حتى إن الفراء يرى أن الفعل (استكانوا) أصله (استكنوا) على وزن (افتعلوا) وأن الألف بعد عينه إنما هي إشباع للفتحة، ومثل ذلك قراءة أميرة المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُو} [الفاتحة: 5]؛ بإشباع ضمة النون في (نستعين)، وكان ورش يقرؤها كذلك كما ذكر ابن خالويه.

ومنه في المنظوم قول أبي الفوارس [الكامل]:(يَنْبَاع) مِن ذِفْرَى (1) غَضُوبٍ (2) جَسْرَةٍ (3)* زَيَّافَةٍ (4) مِثْلِ الْفَنْيَقِ (5) الْمُكْدَمِ (6)

يقال: نَبَعَ الماء نُبُوعًا من باب قعد، ونَبَعَ نَبْعًا من باب نفع لغة؛ أي: خرج من العين؛ ومن ثم فأصله: (يَنْبَع) فأشبع فتحة الباء فنشأت عنها ألف.

وقالوا: (جِئْ بِهِ مِنْ حَيْثُ وَلَيْسَا)، فأشبع حركة السين من (ليس).وقد سمع الفراء من يقول: (أكلتُ لحمَا شاةٍ)؛ يريد: لحم شاة، فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفًا فصلت بين المتضايفين، ومنه قولهم: (الصياريف)و(الدراهيم)، كما وردتا في قول الفرزدق (7)، وإن قيل: إن الفرزدق تميمي، قلت: حررت من قبل أن العربي قد يجمع بين لغة قبيلته ولغة قبيلة أخرى، وقد يتكلم بغير العربية.

ومن ذلك قولنا: (بينا) أنا غارق في عملي، إذ بالمصباح ينطفئ؛ فأصله: (بين) أوقات استغراقي.

إن هذه الظاهرة جديرة بالعناية والدراسة والتوظيف؛ ذلك التوظيف الفني الذي يعكس انفعالات المتكلم المختلفة في مواقف وسياقات متنوعة؛ فلا شك عندي في أن هذا المطل والإشباع ليس اعتباطيًّا أو موسيقيًّا محضًا، بل تصاحبه دلالات؛ مثل التأكيد، والمبالغة في الكثرة، والتضرع… وغير ذلك مما يقف عليه الناظر الناقد العارف بمواضع الكلم.

هذا وبالله – سبحانه – التوفيق والسداد والرشاد، وهو -تقدست أسماؤه- أعلى وأعلم وأعز وأكرم.

_____

ملاحظات:

(1) الذِّفرى: العظم الذي خلف الأذن.

(2) غضوب: عبوس.

(3) جسرة: الطويلة العظيمة الجسم.

(4) زيافة: سريعة مختالة في مشيها.

(5) الفنيق: الفحل من الإبل.

(6) المكدم: القوي من الفحول.

(7) ذلك قوله [البسيط]: 

تَنْفِي يَدَاهَا الْحَصْى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ * نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيَارِيفِ

يريد (الدراهم)، و(الصيارف) جمع (درهم) و(صيرف)، والأخير بمعنى المحاسب العارف بالنقد جيده ورديئه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى