رواية عطر الأرواح الطيبة.. رواية اجتماعية (4)

موزة المعمري | سلطنة عُمان

أمان – “قد يعيش البعض حياة قاسية, ولكنها الأقدار”

في يوم قصائد الجامعي المعتاد قصدت الجامعة ودخلت الصف وأخذت الدرس مع نور ثم وبعد انتهاء الدرس قصدتا حديقة الجامعة وأخذتا بالتحدث

قصائد : نور, أود من أسألكِ عن شيء

نور : تفضلي

قصائد : أمان ابن خالك

نور : ما به؟

قصائد : لم يغطي نصف وجهه بشعره؟

ارتسم على وجه نور الحزن ثم قالت : كان عمره خمسة عشر عاما عندما تعرض للضرب المبرح من والده بالعصا, وأصابت العصا عينه اليسرى فأدمتها, ومنذ ذاك الحين وأمان يغطيها حتى لا يرى أحد ابيضاضها

قصائد : يال المسكين! ألهذه الدرجة والده قاسي؟!

نور : لم أجد أحدا بقسوته, كان يضربه بشدة وعلى أتفه الأسباب, بل لا توجد أسباب, لم أر أحدا بقسوته للآن! هل تتصورين بأنه كان يربطه أحيانا في جذع الشجرة ويتركه هناك ليوم كامل دونما طعام أو شراب؟ أم تصدقين بأنه علاوة لضربه له كان يشتمه وبعدة كلمات نابية؟ لم يكن أبا أبدا, كان يعامله كالحيوان

قصائد : وما سبب كل ذلك؟ أليس ابنه من دمه ولحمه

نور : بلى, ولكن لا تعرفين ما سبب تصرفاته القاسية تلك معه, وليس معه هو وحسب بل مع زوجته والدة أمان, لقد عانت الويلات منه تلك المسكينة

صمتت قصائد ولم تعقب بكلمة ولكنها كانت مفطورة القلب على أمان.

أمان بعدما دخل الجامعة قرر من أن يترك منزل والده القاسي واستأجر شقة له, أكمل سنواته الجامعية وحصل على تقدير امتياز وبات يعمل في شركة والد نور, والد نور يثق كثيرا به ولذلك جعله المدير فهو دائم الانشغال بالسفر والأعمال الأخرى وما إلى ذلك, حاول أمان من أن يأخذ والدته معه لتعيش معه في أمان وسلام بدل الشقاء الذي تلقاه من زوجها المتوحش, ولكن والدته رفضت ذلك خوفا من زوجها, لذلك أمان تركهم وغادر ليحيا حياته هو, يرسمها كما يشاء دونما تدخل متزمت.

ذات يوم من الأيام طُرق باب شقته ففتح الباب وإذ به يرى والدته, استغرب قدومها في بادئ الأمر ولكنه رحب بها وطلب منها الدخول والجلوس, كان يراها مرتبكة كثيرا

أمان : قولي ما لديكِ, أنا أستمع

الأم : مضى على مكوثك ها هنا ثلاث سنوات

أمان : أجل, وأنا الآن حُر

الأم : هو مريض بالمستشفى, يحتضر, ويود رؤيتك

ابتسم أمان ابتسامة سخرية ثم قال : ليس لي والد

الأم : هو يود رؤيتك يا بني, حقق له هذه الأمنية الأخيرة, صدقني, هو يموت

أمان : فليمت, لا دخل لي به, لقد أماتني قبله دونما شفقة منه, لقد جعلني أتمنى الموت يا أماه وأنتِ تعرفين ذلك

وضعت الأم يدها اليمنى على يد ابنها اليسرى ثم قالت : افعل ذلك من أجلي يا حبيبي

صمت أمان في تلك اللحظة وهو يرى والدته ترجوه كي يزور والده الذي لم يكن به رحمة عليهما قط

أمان : حسنا, سأفعل

الأم : غدا

أومأ أمان برأسه بالإيجاب لوالدته ليريح لها قلبها, هو لا يرغب بالذهاب ولكنه سيفعل ذلك إكراما لها

ومر الليل على أمان وهو مستلقي على سريره ويتذكر كل قسوة والده التي مر بها معه, كان يسأل نفسه

“لم كان يفعل معه كل ذلك؟”

“ما سبب كل قسوته تلك عليه؟”

“ما هو الذنب الذي اقترفه؟”

وفي اليوم التالي استعد أمان وخرج من شقته يبغي المستشفى, وصل هناك ودخل الغرفة ومشى بخطواته إلى أن وصل لسرير والده الذي كان نائما, جلس على المقعد وأخذ بالنظر له, لم تكن نظرة أمان لوالده نظرة شفقة أو عطف مطلقا, كان والده ضعيفا جدا ونحيفا وباهت اللون, كان أمان يسأل نفسه

“تُرى أين ذهبت كل تلك القوة التي كان يتحلى بها ويتفاخر؟”

“ماذا حدث لجبروته الذي لم يكن لينكسر قط؟”

“أين هي كل تلك الغطرسة والعنجهية؟”

هو الآن يرى رجلا مختلفا, رجل مسكين مثير للشفقة لا أكثر ولا أقل, فتح الأب عينيه ثم نظر لأمان الجالس على المقعد ونطق وقال:

الأب : بُني

ابتسم أمان ابتسامة سخرية ثم قال : بُني!

الأب : أعلم بأنك لا تحبني ولم تكن لتفعل يوما

أمان : وهل كنت أنت تحبني؟ أو حتى أحببت والدتي؟

الأب : لسنا في مكان ملائم للوم الآن, استمع إلي وحسب, لقد كتبت كل ما أملك لوالدتك, اهتم بها ولا تتركها أبدا

أمان : وهل أتيت بي ها هنا لتقول لي ذلك؟ أنا كنت أهتم بها ولم أنسها ولن أفعل, ولكن أنت ماذا فعلت طوال كل تلك السنوات؟

الأب : لقد قلت ما لدي ولم يعد لدي المزيد لقوله, أعطني شربة ماء فقد جف حلقي

نظر أمان لإناء الماء ثم نظر والده المحتاج بشدة لقطرة الماء ولا يقوى على سكبها له, لم يكن أمان يود من أن يرحم والده في تلك اللحظة فهو لم يرحمه طوال كل تلك السنوات أو يرحم زوجته المسكينة, ولكنه وقف وسكب كوب ماء واقترب بالكأس من فم والده وسقاه

الأب : بوركت يا بني, فليحفظك الله من كل سوء

نظر أمان والده باستغراب فهو لأول مرة يشكر ابنه بل ويدعوا له أيضا؟! أمر غريب! استأذن أمان وغادر الغرفة ثم المستشفى فلم يكن هناك شيء يفعله لوالده أكثر من ذلك.

في اليوم التالي نهض أمان من نومه على سماعه لصوت جهازه النقال وكانت والدته المتصلة, وبعد أن أجابها أمان أخبرته بأن والده قد فارق الحياة وعليه من أن يتخذ كل الإجراءات لدفنه وللعزاء أيضا فهو ابنه الوحيد.

وبالفعل قام أمان بكل الترتيبات للدفن ثم العزاء, ولكن أمان شعر بأنه يأخذ بعزاء رجل غريب وليس والده, فهو لم يُشعره ولا ليومٍ واحد بأنه والده, ولكن أمان استغرب مدى حزن وبكاء والدته على فراق زوجها لها الذي لم يكن زوجا رحيما يوما بها, بعد انقضاء العزاء جلس أمان مع والدته وأخذ بالتحدث معها

أمان : لماذا كل هذا الحزن؟

الأم : لماذا؟ لقد فقدتُ زوجي يا بني!

أمان : أي زوج؟ هو لم يكن زوجا رحيما بكِ يوما

الأم : مهما يكن يا بني, لقد عشت معه كل أيام حياتي, وهو سبب مجيئك إلى هذا العالم لتبهج لي قلبي طربا وفرحا يا عزيزي

أمان : سآخذكِ لتبقي معي هناك إلى أن أغير أشياء كثيرة في هذا المنزل ثم سنعود كلينا

الأم فهمت مغزى أمان ثم قالت : لا تود بأن تذكرك جدران المنزل القديمة بأي شيء مضى؟

أمان : مطلقا

الأم : فليكن يا بني, سأذهب معك, ولتفعل ما تفعله بالمنزل

أخذ أمان والدته لتعيش معه في الشقة بينما طلب من مهندس من أن يقوم بتغير كل جدران ومفروشات المنزل جذريا, هو يرغب بمنزل جديد يمتلئ بالحب والسكينة والطمأنينة, منزل يكون من صنعه هو لا من صنع الغير.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى