من إشكاليات الترجمة الدينية.. دور الوعي بالسيرة النبوية في فهم الآيات وترجمتها (19)

أ. د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات  –  جامعة جنوب الوادي  –

يعلم كل دارس للترجمة الدينية – وخصوصا ترجمة القرآن- ضرورة وعي المترجم بعلوم القرآن: التفسير، واللغة، والمتشابه، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وربما الفقه وأصول الفقه. لكن القليل يعلم أن للسيرة النبوية دوراً كذلك في فهم الآيات، وأن أسباب النزول – وإن كانت تعطي قصة الحدث المصاحب للآية- فإنها مقصورة على الآية أو مجموع الآيات المحدود، وأن هناك جوانب عامة في السيرة يتم استدعاؤها للفهم الأعمق لدلالات الآيات.

نأخذ مثال الآية الكريمة التالية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (الأحزاب: 50).

الآية تتحدث عن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، والتشريع الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم بتحليل أنواع الزوجات… وما يهمنا هنا هو لفتة دقيقة لم أكن أنتبه إليها سابقا حتى نبهني إليها الأخ الكريم محمد صالح الباحث العراقي المحب للسيرة النبوية، وهي أن الآية تذكر عما واحدا (عمك) وتذكر عمات (عماتك) وخالا واحدا (خالك) و تذكر خالات (خالاتك)، وأبسط الحقائق يبين أن للنبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عم : منهم أبو طالب، العباس، حمزة، أبو لهب، فلماذا خصصت الآية عما واحدا؟ ومن هو هذا العم؟ اما من ناحية (خالك) فلا أعلم أحدا يعرف خالا مباشرا للنبي صلى الله عليه وسلم، وكلما ذكر أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ذهب الذهن لأخوال أبيه وجده عبد المطلب وهم بنو النجار من خزرج المدينة، فمن هو هذا الخال؟ بل من هن الخالات والعمات؟

قبل أن نجيب عن هذه الأسئلة دعونا نر ما ذكرته كتب التفاسير. معظم الكتب ذكرت أن (عم) و(خال) هنا اسم جنس بمعنى الجمع (أعمامك) و(أخوالك).. وقالوا: وحد لفظ الذكر لشرفه ، وجمع الإناث لنقصهن كقوله : (عن اليمين والشمائل) [ النحل : 48 ] ، ( يخرجهم من الظلمات إلى النور ) [ البقرة : 257 ] ، ( وجعل الظلمات والنور ) [ الأنعام : 1 ] ،. وهذا غريب، ومردود عليه بأن آية (لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ) ذكرت الأعمام والأخوال بالجمع..
***

وباستقصاء أحداث السيرة النبوية تبين لنا ما يلي:

(1) نبدأ بالأشهر: عمات النبي صلى الله عليه وسلم: عاتكة، أروى، صفية، برة، أميمة، وأم حكيم البيضاء (وهي توأم أبيه عبد الله)، وفي حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا ابن العواتك)، والعواتك جمع (عاتكة) وهن ثلاث نساء اسمهن عاتكة من جدات النبي صلى الله عليه وسلم، وهن: عاتكة بنت الاوقص بن مرة بن هلال وهي أم وهب أبي آمنة أم النبي صلى الله عليه وسلم أي جدته لأمه.، والثانية عاتكة بنت هلال بن فالح بن ذكوان وهي أم عبد مناف ابن قصي والثالثة عاتكة بنت مرة بن هلال بن فالج وهي أم هاشم بن عبد مناف، والأخيرتان جدتاه من ناحية أبيه صلى الله عليه وسلم.

(2) أعمام النبي: أعمام النبي كثر، لأن أبيه كان عاشر العشرة وكان عبد المطلب قد نذر أن ينحر أحدهم عند الكعبة في القصة الشهيرة.. فلماذا ذكر القرآن (عمك) في حين ذكر (عماتك)؟ الجواب: لأن اعمامه كثر مِنْهُمْ أَسَدُ اللَّهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، والعباس، وأبو طالب واسمه عبد مناف، وأبو لهب واسمه عبد العزى ، والزبير، وعبد الكعبة، والمقوم، وضرار، وقثم، والمغيرة ولقبه حجل ، والغيداق واسمه مصعب، وَقِيلَ: نوفل، وَزَادَ بَعْضُهُمُ: العوام، وَلَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ إِلَّا حمزة، والعباس.وبناتهم متزوجات واما الحمزة فرضع معه فتحرم بناته بسبب الرضاعة، وأما أبو طالب فعنده فاختة أم هانىء ولم تكن مهاجرة لأنه قال (اللاتي هاجرن معك).. في الحديث عن محمد بن عمار بن الحارث الرازي، حدثنا عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل، عن السدي ، عن أبي صالح، عن أم هانئ قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه بعذري، ثم أنزل الله : (إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك ) إلى قوله: ( اللاتي هاجرن معك) قالت: فلم أكن أحل له، ولم أكن ممن هاجر معه، كنت من الطلقاء. ورواه ابن جرير عن أبي كريب، عن عبيد الله بن موسى، به.

وبالتالي لم يبق الا عم واحد، يجوز له الزواج ببناته و هو العباس. ويرى الإمام تقي الدين السبكي أن الآية نزلت عندما لم يكن من أعمام النبي أحد على قيد الحياة سوى العباس، ولم تكن من عماته سوى صفية، فيكون العباس هو المقصود بالإفراد كرامة له، و تكون صفية هي المقصودة ولكن حفظا لها ولبناتها جاءت اللفظة بالجمع حتى لا يكون إحراج لهن، وكتب في ذلك رسالة أسماها “بذل الهمة في إفراد العم وجمع العمة”.

(3) خالات النبي صلى الله عليه وسلم: وهن كثر كذلك: وهن فرويعة بنت وهب، وزهرية بنت وهب، وفاختة بنت وهب… فهؤلاء ثلاث خالات… أحل الله له صلى الله عليه وسلم الزواج ببناتهن.
(4) أخوال النبي: هنا المشكلة الحقيقية كما قلنا، فلا يعلم خال للنبي صلى الله عليه وسلم سوى واحد فقط وهو عبد يغوث بن وهب أخو آمنة ام الرسول من ابيها (وقد بذل الأخ محمد صالح جهدا كبيرا في استقصاء اسم هذا الخال المباشر الوحيد، فجزاه الله خيرا).

الآن نجد التعبير القرآني دقيقاً للغاية في تحديد من يحل للنبي صلى الله عليه وسلم الزواج بهن في تشريع خاص به صلى الله عليه وسلم… وكما رأينا لا يسعفك في هذا الفهم أسباب النزول أو التفسير فقط، إنما لابد من الإلمام بالسيرة النبوية كذلك…

الآن دعونا نر كيف تصرف مترجمو معاني القرآن في ترجمة هذه الألفاظ:

Sahih International: ….and the daughters of your paternal uncles andthe daughters of your paternal aunts and the daughters of your maternaluncles and the daughters of your maternal aunts who emigrated with you ….
Pickthall: …. and the daughters of thine uncle on the father’sside and the daughters of thine aunts on the father’s side, and thedaughters of thine uncle on the mother’s side and the daughters of thineaunts on the mother’s side who emigrated with thee…
Yusuf Ali: … and daughters of thy paternal uncles and aunts, and daughters of thymaternal uncles and aunts, who migrated (from Makka) with thee…
Shakir: …. and the daughters of your paternal uncles and the daughtersof your paternal aunts, and the daughters of your maternal uncles andthe daughters of your maternal aunts who fled with you…
Muhammad Sarwar: …. the daughters of your uncles and aunts, both paternal and maternal, who have migrated with you.
Mohsin Khan: …, and the daughters of your ‘Amm (paternal uncles) andthe daughters of your ‘Ammah (paternal aunts) and the daughters of yourKhal (maternal uncles) and the daughters of your Khalah (maternal aunts)who migrated (from Makkah) with you…
Arberry: … and thedaughters of thy uncles paternal and aunts paternal, thy uncles maternaland aunts maternal, who have emigrated with thee

ومن استعراض هذه الترجمات نجد معظمهم (كلهم في الواقع ما عدا Pickthall) قد تعاملوا في الألفاظ على أنها للجمع، فكلهم قال: uncles, aunts دون مراعاة المفرد والجمع في الآية. بل حتى محسن خان الذي لم تعجبه كلمة uncle وأبقى على لفظ عم Amm قد فسرها بين القوسين بالجمع (Uncles) وكذلك فعل في عمة وخال وخالة. ويتضح أن المترجمين لم يلاحظوا أي فرق بين العمات والخالات والعم والخال، فاختصروا القول ب both paternal and maternal وفي هذا جور على دلالات النص الأصلي، وأي جور.
أما بيكتول، فهو الوحيد الذي التزم بالأفراد والجمع كما في الأصل، وإن كنت أظنه فعلها ليوافق الأصل دون تعمق في الخلفيات العائلية المبسوطة في كتب السيرة..
والله – سبحانه وتعالى – أعلى وأعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى