لغة العيون في اللغة والأدب

د. عادل المراغي أديب وكاتب مصري

السر المكنون في لغة العيون

لقد حفلت آيات الكتاب العزير بالحديث عن لغة العيون باعتبارها لا تقل افصاحا عن لغة اللسان. قال تعالى: (فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت) وقال الشاعر:

إن العيون لتبدي في نواظرها

ما في القلوب من البغضاء والإحن

وقال الآخر:

العين تبدي الذي في قلب صاحبها

من الشناءة أو حب إذا كانا

إن البغيض له عين يصـــدقها

لا يستطيع لما في القلب كتمانا

فالعين تنطق والأفواه صـــامتة

حتى ترى من صميم القلب تبيانا

نعم إن العيون ليست وسيلة فقط لرؤية الخارج بل هي وسيلة بليغة للتعبير عما في الداخل أي ما في النفوس والقلوب ونقله للخارج . فهناك النظرات القلقة المضطربة وغيرها المستغيثة المهزومة المستسلمة،وأخرى حاقدة ثائرة، وأخرى ساخرة ، وأخرى مصممة، وأخرى سارحة لا مبالية، وأخرى مستفهمة وأخرى محبة، وهكذا تتعدد النظرات المعبرة وقد سمى القرآن بعض النظرات (خائنة الأعين). والإنسان في تعامله مع لغة العيون يتعامل معها كوسيلة تعبير عما في نفسه للآخرين، وكذا يتعامل معها كوسيلة لفهم ما في نفوس الآخرين.

القرآن الكريم ذكر بعض إشارات العين للدلالة على خبايا النفوس وذلك من خلال تسجيله لما يمكن أن نسميه بـ (تبادل النظرات) في قوله تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) سورة التوبة 127، حيث يصور السياق الدلالي للآية موقف المنافقين من نزول القرآن الكريم، ويكشف تبادل النظرات بينهم، كاشفا عن مجمومة من المشاعر التي تمور في أعماقهم وتتجلى في نظراتهم، وعن تفكير يدور في أذهانهم ويرتسم في نظراتهم، فالنظرة المتبادلة حين سماع الحديث يمكن أن نكتشف منها ما يدور بالنفس من سخط وغضب، وتفاعل داخلى، وتعاون على الرفض وعدم الانصياع.

ثم يأتي تصوير لنظرة ثانية يمكن أن تسمى بـ (الخوف والجبن)، حيث يصور الخطاب القرآني التعبير البصري للمنافقين الذين يسمعون الآيات التي تحث على الجهاد المشروع والدفاع عن الإسلام في قوله تعالى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ ) محمد 20، وهي نظرات تحمل في هيئتها ومعانيها قدرا كبيرا من الخوف والجبن ؛ لأن القتال قد يفضي إلى موتهم.

و التشبيه البليغ تأكيد على علاقة المشابهة بين نظرات المنافقين ونظرات المغشي عليه، فقد استطاع المنافقون الصمت لكن تعبيرات عيونهم أظهرت ما تضمره النفوس؛ لأن الإنسان يستطيع أن يصمت عن الكلام ليخفي ما في نفسه، ولكنه يعجز عن إخفاء نظراته التي تجسد ما يدور في ذهنه ووجدانه، ولهذا يلجأ البعض إلى إبعاد وجوههم وتغطية عيونهم بأيديهم في مواقف معينة ؛ لئلا يرى الآخرون ما تعبر عنه عيونهم كما أن نظرة الخوف عبر عنها القرآن بـ (دوران العين) تارة فقال: (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) سورة الأحزاب 19 ويعبر عن نظرة الخوف أيضا بـ (اختلاس النظر) تارة أخرى فقال تعالى: (وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ) سورة الشورى 45

 أما النظرة التالية فيمكن أن نعبر عنها بـ (نظرات الترقب ) فالخطاب القرآني عَبّر عن نظرة الترقب والانتظار في تغيير الحال بتقلب الوجه كما في قوله تعالى:(قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا) البقرة 144.

و تلك الآيات دعوة لأولى الألباب في النظر والترقب في أحوال المخاطبين ونظراتهم؛ لأننا نسترشد بها على خبايا النفوس وإذا ما تأملنا خبايا علم لغة الجسد نكتشف الكثير حيث يقول المشتغلون بلغة الجسد: إذا اتسع بؤبؤ العين وبدا للعيان فإن ذلك دليل على أنه سمع منك توًا شيئا أسعده، أما إذا ضاق بؤبؤ العين فالعكس هو ما حدث، وإذا ضاقت عيناه أكثر أو فركهما ربما يدل على أنك حدثته عن شيء لا يصدقه، كذلك إذا حاول المرء أن يتجنب النظر في عيون الناس ومن حوله فهذا يدل على أنه فاقد الثقة بنفسه ليس دائما فأحيانا تجنب النظر في أعين الناس يدل على الخجل أو أنه يحاول الانسحاب في الحوار الجاري، أما الحواجب: إذا رفع المرء حاجبًا واحدًا فإن ذلك يدل على أنك قلت له شيئا إما أنه لا يصدقه أو يراه مستحيلًا، أما رفع كلا الحاجبين فإن ذلك يدل على المفاجأة، كما يقول المتخصصون: الذي يشعر بالخجل ينظر إلى الأسفل، والذي ينظر إلى نقطة محددة يمتاز بقوة تفكير وتركيز عصبي كنظرة الترقب في السياق القرآن، أما الذي ينظر في الجانبين فهو المتشتت كما عبرت عنه الآيات بدوران العين.

ومعرفة مكنونات الصدور من خلال العيون ليس باليسير، لأن الأمر يتعلق بصفاء نفسي وعقلي من جهة قاريء العيون ومترجم رموزها، ويرتبط أيضا بقدرة الطرف المقروء على إخفاء أو إظهار مكنونات نفسه التي من خلالها نعرف الشخص الصادق من الكاذب، والذي يتودد لنا ويحب من المبغض الكاره، والواثق في نفسه من الخائف.

إن التراث العربي زاخر بحديثه عن العين وأهميتها، كقناة من قنوات الاتصال، في عملية إرسال واستقبال الرسائل المختلفة، وقدرتها على التأثير في الناظر إليها، بل قد يتعدّى تأثيرها في الناظرة إليه.

ولقد أولى القرآن حاسّة البصر أهمية كبرى من خلال الآيات العديدة التي وردت فيها الكلمة سواء بلفظ «البصر» أو بلفظ «العين»، مؤكدًا أن العين وسيلة فعالة للحصول على المعلومات، فقال تعالى {وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[1]، فإطالة النظر فيما عند هؤلاء من زخارف الدنيا قد يكون سببًا في حالة الركون إليهم، وسكون النفس عن القيام بأهدافها وطلب المعالي.

كما ذكر القرآن من خلال سورة النور، أن النظر له دور كبير في السلوك الجنسي، لأنه يزود الشخص بالمعلومات الكافية للإثارة الجنسية فقال سبحانه {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[2].

وتحدَّث القرآن الكريم عن المعاني التي رسمتها الدموع المنهمرة من العيون تأثرًا بسماعها للقرآن الكريم، قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}[3].

وجاء في السنة ما يؤكّد الدور الاتصالي للعين، فعن أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إياكم والجلوسَ في الطرقات، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بُدٌّ نتحدّث فيها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فإذا أبيتم إلَّا المجلس فأعطوا الطريق حقه فقالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»[4].

ليست العيون وسيلة لرؤية الخارج فقط، بل هي أيضًا وسيلة بليغة للتعبير عمَّا في الداخل ونقله للخارج، والمعاني التي يمكن أخذها من العيون كثيرة، فهناك النظرات القلقة المضطربة، وغيرها المستغيثة المهزومة المستسلمة، وأخرى حاقدة ثائرة، وأخرى ساخرة، وأخرى مصمّمة، وأخرى سارحة لا مبالية، وأخرى مستفهمة، وأخرى مُحِبَّة. والإنسان يتعامل مع لغة العيون كوسيلة للتعبير عمَّا في نفسه للآخرين، وكوسيلة لفهم ما في نفوس الآخرين[36].

وقد تحدَّث القرآن الكريم عن لغة العيون، وما تنقله من رسائل، وما تحدثه من تأثير في الآخرين وبين عدة أنواع منها. لكل واحدة مدلولها الاتصالي الذي يختلف عن مدلول الأخريات ومن هذه العيون نذكر:

1- النظرة المزدرية (دلالة الاحتقار): لقد ورد في القرآن ذكر لعين الإنسان في سياقها التواصلي، وذلك عندما تنظر إلى الناس نظرة احتقار واستصغار، كما في قوله تعالى على لسان نبي الله نوح {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}[37] وتزدريهم في الآية بمعنى تستهين بهم.

والظاهر من سياق الآية أن الخطاب موجّه من نوح (عليه السلام) إلى كفار قومه، الذين كانوا يحتقرون فقراء المؤمنين، فقد دلّت نظرات عيون الكفار بحركة معينة على الاحتقار والانتقاص، ولا شك أن نظرات العيون في هذه الحالة، كانت أعمق في التأثير، وفي الدلالة على معنى الاحتقار، من قولهم: نحن نحتقركم أو ما شابه.

وهكذا تخطئ العين عندما تتخذ من المظهر والوضع الاجتماعي مقياسا لإصدار الحكم، فإما تحكم عليه بالرفعة والشرف أو بالدونية والضعة والحقيقة في أكثر الحالات عكس ذلك.

2- النظرة الشاخصة (دلالة الدهشة): كما ذكر القرآن الأبصار وهي دالة بحركاتها ذكرها وهي دالة بسكناتها، من ذلك حديثه عن الأبصار الخاشعة، وقد وصفها القرآن في قوله تعالى: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ}[38]، وقوله: {وَلَا تَحسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[39]، والمعنى «أجفانهم لا تطرف» لشدة ما ترى من الهول.

وهي نظرة شاخصة تكبر فيها حدقة العين، وتصاحبها تعبيرات وجهية تدل على الخوف، وفي «الآيتين وصف دقيق لما يحدث للأبصار حال الخوف من اتّساع حدقة العين، وشدة التحديق بها، وعدم غمضها. وقد ذكر أهل الاختصاص أنه عند الخوف الشديد تتّسع حدقة العين، وفي حالات الفرح والانشراح تميل إلى التضيق»[40].

وقد بيّن ابن منظور أن الشخوص لا يقتصر على البصر وإنما يتعدّاه إلى الكلمة داخل الفم، «فشخصت الكلمة في الفم تشخص إذا لم يقدر على خفض صوته بها» فشاخص الكلمة وشاخص البصر يلتقيان في العجز، فالأول عاجز عن خفض صوت كلمته والثاني عن تحريك عينه[41].

3- النظرة الذليلة (دلالة الضعف): وهي التي يتحاشى صاحبها الأخرين، إحساسا منه بالضعف نحوهم قال تعالى {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ}[42].

«والخشوع حقيقته: الخضوع والتذلل، وهو هيئة للإنسان، ووصف الأبصار به مجاز في الانخفاض والنظر من طرف خفي نظر منبعث من حركة الجفن الخفية. وهي نظرة الخائف المفتضح؛ وهو كناية لأن ذلة الذليل وعزة العزيز تظهران في عيونهما»[43].

إنها حالة الإنسان الخاسر، الذي تيقّن بالهلاك عند عرضه على نار جهنم، فحاله تنبئ عنه، فهو يحرّك أجفانه بذل وخشوع، ويسترق النظر على أمل أَلَّا يراه أحد أو أنه لا يستطيع أن يملأ عينيه برؤية نار جهنم، فيقوم بهذه الحركة الجسدية الدالة على الذلة والهوان، وبأسلوب بليغ عميق مؤثّر، تعطي لمن يشاهد هذا الموقف دلالة واضحة على ذل صاحبها وخوفه، والخزي الذي لحق به جراء تكذيبه وعصيانه.

4- النظرة الخائنة (دلالة كشف المستور): وهي العين التي تخون وتفضح صاحبها وتكشف أسراره ورغباته الداخلية العميقة والتي لا يرغب بالإفصاح عنها.. قال تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ}[44]، إن التعبير القرآني {خَائِنَةَ الأعْيُن}، يعبّر بدقة مذهلة عن حقيقة هذه الظاهرة. فالإنسان يحاول باستمرار أن يخفي أفكاره، والعين تحاول باستمرار أن تكشف وتفضح هذه الأسرار من دون أن يشعر وكأنها تخونه، فهو تعبير علمي رائع.

جاء في بحث علمي نشر في منتصف 2015 في جريدة الجارديان ما يؤكد هذه الحقيقة بشكل علمي وهو تحت عنوان: How your eyes betray your thoughts أي «كيف يمكن لعيونك أن تكشف أفكارك»! يتحدث عن خيانة betray العين لصاحبها، وقد وجد الباحثون أن سرعة حركة العين وعدد هذه الحركات وشكلها وتوقيتها… كل هذا يمكن قراءته واكتشافه من خلال تقنية التصوير السريع ومعالجة البيانات ببرامج خاصة على الكمبيوتر. ويعتقد العلماء أن هذه الحركات التي لا يمكن أن نرصدها بالعين المجردة، ولكن يمكن تصويرها بكاميرات حديثة، تخبرنا بما يدور في دماغ الإنسان من دون أن يشعر وكأن هذه الأعين تخونه وتفضحه»[45].

5- النظرة المعرضة (دلالة عدم الاهتمام): قال الله تعالى {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا}[46].

وَرُوِيَ عَنْ الْحَسَن {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاك عَنْهُمْ} أَيْ لَا تَتَجَاوَز عَيْنَاك إِلَى غَيْرهمْ مِنْ أَبْنَاء الدُّنْيَا طَلَبًا لِزِينَتِهَا؛ حَكَاهُ الْيَزِيدِيّ. وَقِيلَ: لَا تَحْتَقِرهُمْ عَيْنَاك؛ كَمَا يُقَال فُلَان تَنْبُو عَنْهُ الْعَيْن؛ أَيْ مُسْتَحْقَرًا. وهو بِمَنْزِلَةِ لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ، وَمَعْنَى لَا تَنْصَرِف عَيْنَاك عَنْهُمْ لَا تَصْرِف عَيْنَيْك عَنْهُمْ، فَالْفِعْل مُسْنَد إِلَى الْعَيْنَيْنِ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة مُوَجَّه إِلَى النَّبِيّ (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ وَيَزِيدك وُضُوحًا قَوْل الزَّجَّاج: إِنَّ المَعْنَى لَا تَصْرِف بَصَرك عَنْهُمْ إِلَى غَيْرهمْ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَات وَالزِّينَة[47].

لقد أشار القرآن من خلال توجيهه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعدم مجاوزة فئة المؤمنين إلى غيرهم، إلى أن الإقبال بالعين نحو الشخص دليل على الاهتمام به وأن مجاوزته بها دليل الإعراض عنه وعدم الرغبة فيه.

6- العين الممتدة (دلالة الطموح والرغبة): قال الله تعالى: {لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ}[48]، وقال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى}[49].

قال الزبيدي: «المدّ طموح البصر إلى الشيء، يقال مَدَّ بصره إلى الشيء، إذا طمح به إليه،… مددت عيني إلى كذا نظرته راغبًا فيه»[50].

وقال سيد قطب: «والعين لا تمتد، إنما يمتد البصر أي يتوجّه، ولكن التعبير التصويري يرسم صورة العين ذاتها ممدودة إلى المتاع، وهي صورة طريفة حين يتصوّرها المتخيّل، والمعنى وراء ذلك ألَّا يحفل الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك المتاع الذي آتاه الله بعض الناس، رجالًا ونساءً امتحانًا وابتلاءً، ولا يلقي إليه نظرة اهتمام، أو نظرة استجمال، أو نظرة تمنٍّ، فهو زائل وشيء باطل، ومعه هو الحق الباقي من المثاني والقرآن العظيم»[51].

وقال ابن عادل: «وقرّر الواحدي هذا المعنى فقال: إنما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النظر نحوه، وإدامة النظر إلى الشيء تدلّ على استحسانه وتمنّيه، وكان النبي (صلى الله عليه وسلم) لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا»[52].

وقال الشعراوي (رحمه الله): «والمراد بمدّ العين ليس إخراج حبّة العين ومدّها، ولكن المراد إدامة النظر والإمعان، ولكن الحق سبحانه عبّر في القرآن هذا التعبير، وكأن الإنسان سيخرج حبة عينه ليجري بها، وليمعن النظر، وهذا ما يفهم من منطوق الآية يُشير إلى المفهوم المراد، وهذا عين الإعجاز»[53].

وبالنظر إلى هاتين الآيتين نلحظ الحركة الجسدية المستعملة فيهما، والمنهي عنها، ألا وهي مدّ العين، ودلالاتها الواضحة العميقة هنا، أَلَّا ينظر الإنسان إلى ما عند غيره متمنيًا أن يكون له، حسدًا وطمعًا، لأن هذا الرزق قد يكون ابتلاءً واختبارًا من الله تعالى للكفار أو المؤمنين، واستخدام هذه الحركة الجسدية فيه بلاغة وإعجاز لإيصال المعلومة لنا بعمق وتأثير، ولننتهِ عن هذه العادة الذميمة، ونقتنع بما آتانا الله تعالى من عظيم فضله وجزيل نعمه.

7- النظرة المزلقة (دلالة الحسد): تتحوّل –الأعين- أحيانًا أثناء الاتصال مع الغير من وسيلة نفعية إلى وسيلة إيذائية، وقد ورد ذلك عند حديث القرآن عن أعين الكافرين المصوبة في حسد وعداء، نحو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال الله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ}[54].

وتُشير الآية إلى حالة الإيذاء البصري عند الاتصال بالعين، يقول محمد سيد طنطاوي في التفسير الوسيط: «قولهم {لَيُزْلِقُونَكَ} من الزلق بفتحتين وهو تزحزح الإنسان عن مكانه، وقد يؤدّى به هذا التزحزح الى السقوط على الأرض يقال: زلقه يزلقه وأزلقه يزلقه إزلاقًا إذا نحّاه وأبعده عن مكانه، واللام فيه للابتداء، أي لما سمعوا الذكر كادوا يزلقونك، أي وإن يكاد الذين كفروا ليهلكونك أو ليزلون قدمك عن موضعها، أو ليصرعونك بأبصارهم من شدة نظرهم إليك شزرًا بعيون ملؤها العداوة والبغضاء حين سمعوا الذكر وهو القران الكريم»[55].

وعند ابن كثير: قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: «{لَيُزْلِقُونَكَ} لينفذونك {بِأَبْصَارِهِمْ} أي يعينونك بأبصارهم، بمعنى يحسدونك لبغضهم إياك لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر الله عز وجل كما وردت بذلك الأحاديث المروية من طرق متعددة كثيرة، يقول (صلى الله عليه وآله وسلم): «عَلامَ يَقْتُلُ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ؛ إِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مِنْ أَخِيهِ مَا يُعْجِبُهُ فَلْيَدْعُ لَهُ بِالْبَرَكَةِ»[56].

8- نظرة الواجب الغض منها (دلالة التعفف): أشار ابن حزم عند كلامه عن مدلول الإشارة إلى دور السلوك البصري في التواصل والتراسل بين المحبين، وكيف أنه به يتواصل وتضرب المواعيد، وأما الجاحظ فقد استشهد في باب دلالات الإشارة بالأبيات التالية:

أشارت بطرف العين خيفة أهلها

إشارة محزونِ ولــم تتكـلـم

فأيقنت أن الطرف قد قال مرحبا

وأهـلا وسهـلا بالحبيـب المتيـم

ويُلحظُ هنا أنَّ الشاعر «نَفَى الكلام اللفظي لا مطلق الكلام، ولو أراد بقوله: «ولم تتكَّلمِ» نفي غير الكلام اللفظي، لانتقض بقوله: «فأيقنتُ أنَّ الطرفَ قدْ قالَ مَرْحبًا»، لأنه أثبت للطرفِ قولًا بعد أنْ نفى الكلام، والمراد نفي الكلام اللفظي وإثبات الكلام اللغوي»[57].

وقال الألوسي: «وكثيرًا ما يَعرف الإنسان مُحبّه ومبغضه من خلال النظر، ويكاد النظر ينطق بما في القلب»[58].

وسدًّا لباب الفتنة أمر الله بوجوب غض البصر قال تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[59].

ولخطورة السلوك البصري غير المشروع، قدّم القرآن غضّ البصر على حفظ الفرج، من باب تقديم الأسباب عن نتائجها، قال الزمخشري فإن قلت: لِمَ قدّم غضّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلت: لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور[60].

وفي تأثير غضّ البصر في النفس وفي الآخرين فإن غضّ البصر يمنع وصول أثر السهم المسموم إلى القلب، فيقوّي إيمان الإنسان بربه، بما يورث المسلم الفراسة الصادقة والثَّبات والشَّجاعة، وهذا يكسبه مهابة في قلوب النَّاس واحترامًا.

9- العين الباكية (دلالة التمويه): قال تعالى: {وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}[61].

في هذا النص القرآني يحاول إخوة يوسف جمع أكبر عدد ممكن من عناصر الاتصال في محاولة لإثبات صحّة الرسالة التي يريدون نقلها إلى أبيهم، فعلى الرغم من أنها رسالة كاذبة في أصلها، إلَّا أنهم حاولوا التمويه من خلال استخدام نوعي الاتصال، الناطق والصامت، وهذا الأخير كان من خلال استخدام لغة العيون، بطريق البكاء بين يدي والدهم –كما نفهم من النص القرآني- هو الرسالة الأولى التي نقلوا الخبر من خلالها. وقد اختاروا لها وقت الظلمة حتى لا ينكشف تصنُّعهم للبكاء فيفتضح أمرهم. ثم استخدموا لغة الإشارة، وذلك من خلال الدم الذي جاؤوا به على القميص، في محاولة للتدليل على صدق دعواهم.

ولا شك أن نقل الخبر بهذه الصورة يجعله أكثر قوة وتأثيرًا. فعلى الرغم من أنَّ البكاء لم يكن إلَّا دموع التماسيح، وأنّ الدم كان كاذبًا -وبغض النظر عن اقتناع سيدنا يعقوب (عليه السلام) بذلك- إلَّا أنّ إخوة يوسف ما جاؤوا بهذه القرائن الصامتة إلَّا لعلمهم بأنها تدعّم موقفهم وتقوّي الرسالة التي يريدون نقلها.

ومن هنا تتجلّى لنا قدرة الأداء القرآني الدقيق في التعبير عن الانفعالات التي توجد في النفس الإنسانية، والتي حاول إخوة يوسف تأخير اللقاء بأبيهم إلى العشاء لستر هذه الانفعالات التي توجد على الوجوه مثل حالة الاضطراب، وافتعال البكاء الذي يناقض كذب ألسنتهم، فتنكشف سيماهم الكاذبة. لذلك يجب على المتحدّث بلغة العيون التنبُّه إلى طبيعة البكاء وحمله على المعنى الحقيقي المقصود. فكم من دمعة تذرف فيحسبها الناظر بكاء وحزنًا، وما درى أن الدمعة تخدعه كما تخدعه الكلمة.

العيون في الشعر العربي

 لقد تغني الشعراء بعيون المها و غزال الريم التي تحكى إبداع الله في خلقه و تغزل بعيونها الشعراء في وصف النساء.

 قال علي ابن الجهم:

عيون المها بين الرصافة والجسر

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

أعدن لي الشوق القديم ولم أكن    

سلوت ولكن زدن جمرا على جمر

وقال جرير:

إِنَّ العُيونَ الَّتي في طَرفِها حَوَرٌ

قَتَلنَنا ثُمَّ لَم يُحيِينَ قَتلانا

يَصرَعنَ ذا اللُبَّ حَتّى لا حِراكَ بِهِ

وَهُنَّ أَضعَفُ خَلقِ اللَهِ أَركانا

وقال إليا أبو ماضى:

لَيتَ الَّذي خَلَقَ العُيونَ السودا

خَلَقَ القُلوبَ الخافِقاتِ حَديدا

عَوِّذ فُؤادَكَ مِن نِبالِ لِحاظِها

أَو مُت كَما شاءَ الغَرامُ شَهيدا

 إِن أَنتَ أَبصَرتَ الجَمال وَلَم تَهِم

  كُنتَ اِمرًا خَشِنَ الطِباعِ بَليدا

وقد أبدع الشريف الرضي في وصف عيون الريم وأجاد فقال:

ســهم أصــاب، وراميـــه بـذي سلم

مـن بالعــراق، لـقـد أبعـدت مـرماك!

 حكت لحاظك ما في الريم من ملح

يوم اللـقـاء، فكـان الفضـل للحـاكي

 أنت النعـيـم لـقـلــبـي والعـذاب له

فـمــــا أمــرّك في قـلـبـــي وأحلاك

وقال شوقى أمير الشعراء:

ريمٌ عَلى القاعِ بَينَ البانِ وَالعَلَمِ

أَحَلَّ سَفكَ دَمي في الأَشهُرِ الحُرُمِ

وقد جمعت اكثر من ثلاث مائة بيت من نفائس الشعر العربي في العيون ولغة العيون وابداع الله تعالي قال عثمان بن عفان (ما أسر أحد سريرة إلا وأظهره الله علي فلتات لسانه ونظرات عيونه) والصب تفضحه عيونه

قال عمر بن أبي ربيعة:

أشارَتْ بِطَرْفِ العَيْنِ خِيفَةَ أهْلِها

إِشَارَةَ مَحْزُونٍ وَلَمْ تَتَكَلَّمِ

فَأيْقَنْتُ أنَّ الطَرْفَ قدْ قَالَ: مَرْحَباً

 وَأهْلاً وَسَهْلاً بِالْحَبِيبِ المُتَيَّمِ

أما عبدالله الفيصل فقد شكا من جمال العيون:

ما كنت أؤمن بالعيون وفعلها

حتى دهتني في الهوى عيناك

وأحمد شوقي يعلن عجزه عن الكلام بعد أن رأى عين الحبيبة:

وتعطلت لغة الكلام وخاطبت

 عيني في لغة الهوى عيناك

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى