من إشكاليات الترجمة الدينية.. تجاهل التركيب لتجنب المعنى الملتبس (20)

أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي –

نتناول اليوم جانبا من الترجمة الدينية؛ وهو موقف غريب للمترجمين في التعامل مع الآية رقم 27 في سورة فصلت: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ.

فالآية تذكر المثنى بشكل مؤكد ومكرر(الذيْن) وليس (الذِين)، (أضلانا) و ليس (أضلونا)، و (نجعلهما) وليس (نجعلهم)، و (ليكونا) وليس (ليكونوا). … فالتأكيد هنا واضح على صيغة المثنى، وليس الجمع…

إذن من المقصود بهذه الصيغة (أو من المقصودان؟)… في بعض التفاسير، نجد أن المقصود هو المضلون على العموم من الجن والأنس… وليس هناك تحديد لهم.. وهذا غريب، لأن الآية كان يمكن أن تكون بصيغة الجمع لبيان ذلك، لكنها أكدت على المثنى. قد يقول البعض أنه مثنى من اسم الجمع، كما في قوله تعالى: “وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا، فأصلحوا بينهما” فالطائفتان مثنى، ورغم ذلك قال – سبحانه وتعالى – (اقتتلوا)، وليس (اقتتلا، أو اقتتلتا)، وذلك لأن (طائفة) اسم جمع والاقتتال يكون بين جميع أفراد الطائفة، في حين الإصلاح يكون بين ممثل من كل طائفة، لذلك يصلح لهما المثنى.

والرد على ذلك أن آية (الحجرات) بها مزاوجة بين الجمع والمثنى (اقتتلوا – بينهما) و الكلمة نفسها اسم جمع… أما آية (فصلت)، فليس فيها أية إشارة للجمع ، بل تلح على استخدام المثنى والإشارة للمثنى. كما أن الجملة ليس بها اسم جمع، بل بها اسم جنس وهو جمع صريح (جن – مفردها جني، وإنس – مفردها إنسي).

وتركيب الآية يبين أن هناك شخصا محددا من الجن، وهناك شخصا محددا من الإنس، يطلب الذين كفروا أن يشاهدوهما. فمن هما هذا الشخصان؟ الأول لا خلاف عليه، هو أشهر الجن (إبليس) عليه لعنة الله. لكن من الإنسي المحدد الذي يضاهي إبليس في إضلاله وإغوائه؟؟

هنا تتضارب الأقوال؛ بعض المفسرين يقول إنه قابيل ابن آدم القاتل، لأن الحديث في الصحيح يقول: ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم القاتل كفل منها بما سن من القتل.

إذن من الناحية التركيبية، عندنا شخصان هما إبليس وقابيل. إذن حلت المشكلة، ما على المترجم سوى أن يشير إلى تعبير يبين المثنى، وربما يذكر الاسمين بين قوسين.

لكن الأمر ليس بهذه السهولة؛  فالحقيقة أن تصورنا لإثم ابن آدم لا يضاهي تصورنا لإضلال إبليس؛ فإبليس من المنظرين، ممتد الحياة، دائم الغواية، مثال الشر المطلق، لكن ابن آدم  هو محدود الحياة، قتل بدافع الحسد، و كان من النادمين بعد فعلته… فحتى لو كان عليه اثم سنة القتل، فهو مازال قاتلاً بجريمة واحدة (ولا تزر وازرة وزر أخرى).

هناك اجتهاد من بعض المعاصرين، يرى أن الإنسي المضلل هو من حذر منه جميع الرسل ووضح أمره نبينا – صلى الله عليه وسلم – وهو المسيخ الدجال.. فهو أكثر فتنة وضلالة من ابن آدم بالتأكيد، و هو (شر قادم يتنظر)، بل كان النبي -صلى الله عليه وسلم – يظن أنه موجود في عصره، وظن أنه ابن صياد، وتميم الداري حكى للنبي – صلى الله عليه وسلم – رؤيته للدجال في إحدى الجزر.. ويضل بضلالته خلق كثير… حتى المدينة المنورة التي لا يجرؤ على دخولها، ينادي من خارجها : فيخرج إليه سبعون ألف من منافقيها- كما في الحديث.

لكن – كما قلنا – هذا اجتهاد معاصر، لذلك لا يستطيع المترجمون أن يركنوا إليه بقوة، كما أنهم – فيما يبدو – غير مقتنعين بأن مضلل الإنس هو قابيل، لذا اضطروا لاتخاذ قرار عجيب، وهو تقديم المعنى العام (وهو كل من يضلل من الجن والإنس بدون تحديد) على حساب تركيب المثنى الذي تؤكد عليه الآية في كل كلماتها، بل لم يضعوا أية إشارة إلى أن تركيب الآية الأصلي به إشارة للمثنى.

Sahih International: And those whodisbelieved will [then] say, “Our Lord, show us those who misled us ofthe jinn and men [so] we may put them under our feet that they will beamong the lowest.”

Pickthall: And those who disbelieve will say: Our Lord! Show us those who beguiled us of the jinn and humankind. Wewill place them underneath our feet that they may be among thenethermost.

Yusuf Ali: And the Unbelievers will say: “Our Lord! Show us those, among Jinns and men, who misled us: We shall crush thembeneath our feet, so that they become the vilest (before all).”

Shakir: And those who disbelieve will say: Our Lord! show us those wholed us astray from among the jinn and the men that we may trample themunder our feet so that they may be of the lowest.

MuhammadSarwar: The disbelievers will say, “Lord, show us the human beings andjinn who caused us to go astray. We shall put them under our feet tolower them”.

Mohsin Khan: And those who disbelieve will say: “OurLord! Show us those among jinns and men who led us astray, we shallcrush them under our feet, so that they become the lowest.”

Arberry: And the unbelievers shall say, ‘Our Lord, show us those thatled us astray, both jinn and men, and we shall set them underneath ourfeet, that they may be among the lower ones.

ومن نافلة القول أنه ليس بالإنجليزية تركيب محدد للمثنى، لكنه لا يصعب الإشارة إليه، فكان يمكن القول Show us the two among the men and jinn who.. فههنا مثال حي على ما يضيع في الترجمة translation loss بسبب التباس التفسير.

والله أعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى