الشهيد الأسير داود الخطيب.. روح ساجدة وطليقة

عيسى قراقع | فلسطين

خلال أدائه صلاة المغرب في سجن عوفر الإسرائيلي يوم 2/9/2020، استشهد الأسير الفلسطيني داود طلعت الخطيب 46 عاماً، من سكان مدينة بيت لحم، وقد أمضى 18 عاماً داخل السجن وكان على عتبة الإفراج خلال شهور عديدة.

في الشهور القليلة المتبقية للإفراج عنه، رمم الشهيد داود حاجياته الصغيرة، دفاتره وصور عائلته وأصدقائه وخربشاته وأشواقه الحميمة، أكمل فصول الحكاية في الذاكرة: إصابته بالرصاص عام 2002 خلال التصدي لاجتياحات قوات الإحتلال للمدن الفلسطينية، الجرح لم يزل مفتوحاً، جدار الفصل العنصري يمتد ويتوسع ويخنق الناس في المعازل الضيقة، شهداء في الشوارع وتحت ركام البيوت المدمرة، دماءٌ وجثثٌ في محراب الكنيسة، حملات اعتقال همجية وجماعية، الشهيد داود حرث جسده وذكرياته في السجن ليزرع وردةً في يوم حرية.

منذ عام 2010 استشهد 28 أسيراً داخل أقبية السجون الإسرائيلية، أغلبهم بسبب الجرائم الطبية وسياسة القهر والحرمان والقمع والتعذيب، إنها مجزرة في زمن قياسي قصير، السجون أصبحت مكاناً لزراعة الموت البطئ في أجساد الأسرى وانتاج الموت سنة وراء سنة، موت المناضلين في السجون هو موت الصامتين الخرساء وحراس العدالة الكونية وهو أبشع أنواع الموت على قيد الحياة.

الصلاة أعتقته في السجدة الأخيرة، لم يسجد إلا لله، الإيمانُ والروح العنيدة حملته إلى ساحة ميلاد اليسوع في بيت لحم، هناك ذكرياته وخطواته وأصدقاؤه الشهداء والأسرى والمبعدين، أحباؤه الذين حوصروا أربعين يوماً تحت القنابل والرصاص بين آذان الجامع وأجراس الكنيسة.

الصلاة لله حررته ليكمل أركانها طليقاً في بيت لحم، يقرأ الفاتحة على قبر والديه وشقيقه ويعتذر للعذراء البتول عن غيابه الطويل، يرتل الأناشيد والتراتيل ويضئ الشموع فوق اغصان المدينة.

استشهد داود الخطيب ساجداً في الصلاة، بين الركعة والركعة اختتم الحياة بروح إيمانية طليقة، حلقت مع الآيات المباركات والسماوات العاليات، وقد رأى الأسرى في السجن ضوءً يخرج من بين القضبان، من شقوق الجدران، يفتح الأبواب الحديدية، يحمل جثمان الشهيد لتحتضنه أجنحة الملائكة.

معضلة السجانين الإسرائيلين أنه عندما يموت الأسير لا يتحرر السجان وينتصر بل يختنق في ضجيج الأرواح الشهيدة، كل شهقة تفضح الجريمة، موت يكسرُ أنياب الجلادين وسيوفهم، الجلادون يخرجون من خلف المرايا مهشمين، افتضحت الرواية، ملابسهم منقوعة بدم الضحايا.

سمع الأمين العام للأمم المتحدة صراخ الأسرى الغاضبين في سجن عوفر وطرقهم على الأبواب في المواجهات التي جرت مع السجانين عقب استشهاد الأسير داود، الصليب الأحمر الدولي كان يعرف أن قلب الشهيد قد اختنق في تلك السجون التي تفتقد لكل مقومات الحياة الإنسانية والصحية، حكام تل أبيب أعلنوا السجن منطقة عسكرية مغلقة، رائحة الموت تتخطى أسوار السجن والأسلاك الشائكة.

في الوقت الذي يهرول فيه المطبعون إلى شواطئ تل أبيب ولا يمرون من القدس ولا يلتفتون إلى الأقصى والقيامة، لا ينظرون إلى الأسرى القابعين في سجون عوفر وعصيون والمسكوبية، كانت روح الشهيد داود الخطيب تشتعل لحماً وعظماً، تصير أغنية وحجراً وقنبلةً يدوية.

طبع الشهيد داود جبينه على سجادة الصلاة، سمع نبضات الأرض وحركة الماء في عروقها، يغسله ماء الأرض وآيات الرحمن وصهيل الفضاء، لكن المطبعون الغادرون تحالفوا مع الشيطان، باعوا القدس ودماء الشهداء، صفقة القرن داست على جبينهم في الوقت الذي صعد فيه الشهيد داود مرفوع الرأس الى عنان السماء.

رقم 225 ليس رقماً في قائمة شهداء الحركة الأسيرة منذ عام 1967، أيها الصحفيون والكتاب والمثقفون: لا تكتبوا أرقاماً صامتة، هذه الأرقام ما هي إلا بشرٌ خاضوا معارك الحرية وتراقص الموت أمام جفونهم آلاف المرات، بشرٌ يشتبكون مع دولة احتلال فاشية وعنصرية، يدافعون عن العروبة والكرامة والهوية.

أيها الكتاب في كل مكان: نحن لا نقدس الموت كما يفعل الإسرائيليون الذين لازالت ذاكرتهم ذاكرة موت، يتشبهون بالنازيين الذين زجوهم في تلك المحرقة، نحن لا ننظر لتاريخنا خشية من جهنم، نحن نصنع المستقبل للبشرية جمعاء ولحياتنا القادمة.

في ساحة المهد في بيت لحم نصبنا خيمة للعزاء وللفرح، لم يصل الشهيد داود الخطيب، ربما يحتجزون جثمانه كما احتجزوا جثامين مئات الشهداء في تلك المقابر السرية أو في الثلاجات الباردة، القادة الاسرائيليون يخشون أن داود لم يزل حياً، شهداء فلسطين لهم قدرات على كسر التعاميم والبراهين وعادات المراثي، الناس كلها أعدت مراسيم الزفاف، الناس كلها تكتب رواية التاريخ بدم الضحايا ليصل الشهيد إلى محطته الأخيرة.

يكتب الشهيد داود الخطيب: الوطن هو أن تحمل الموت على اكتافك في الليل والنهار ووقت الصلاة، الموت يوصلك إلى الحق والأرض والعائلة، فلسطين تراها في عيون الشهداء فقط، تراها بين حلقات القيود وفي الزنازين، أسرى يرسمون أحلامهم التي يشعلها ويوقظها الموت في غمرة الظلام.

رأيتُ بيت لحم تعلق عاشقها الشهيد فوق أشجار الميلاد في الساحة، عند كل فجر هناك نجمة ترتب الحياة وتنشر أسماء الشهداء في الهواء، تدور وتدور كزهرة العباد حول الشمس، شهداء يخلطون الليل بالنور والمتراس، يحركون الرياح في صلواتهم الخمس.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى