من إشكاليات الترجمة الدينية قصة البقرة قصتان…؟ (21)

أ.د. عنتر صلحي | أستاذ الترجمة واللغويات – جامعة جنوب الوادي –

يعرف معظم الناس أن سورة البقرة تحفل بقصص لبني إسرائيل، و تذكير المولى عز وجل لهم بما من به عليهم .و يُلاحظ أن كل قصة منها تبدأ ب (وإذ) من مثل:

  1. وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ
  2. وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
  3. وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ وَأَنتُمْ ظَالِمُونَ
  4. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ
  5. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ
  6. وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ
  7. وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ كُلُواْ وَاشْرَبُواْ مِن رِّزْقِ اللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ
  8. وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ….

ويقول النحاة والمفسرون إن (إذ) ظرف زمان للحدث الماضي، وكأنها تعني (واذكروا  حين…..). ورغم كثرة أخبار بني إسرائيل في سورة البقرة إلا أن قصة البقرةنفسها هي أظهر الأخبار، ومنها أخذت السورة اسمها. فلنتأمل قليلاً في هذه القصة:

  1. وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
  2. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرُونَ
  3. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ
  4. قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ
  5. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ
  6. وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ
  7. فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ

هذه هي القصة كما هو معروف لدى الكثير من الناس، غير أن نظرة فاحصة تبين أن بالقصة اثنتين من لفظة (إذ): إذ قال موسى، وإذ قتلتم نفسا.  ويقول المفسرون إن بالقصة تقديما وتأخيرا، وإن ترتيب الأحداث يعني أن قتل النفس حدث أولاً،بعدها اختلفوا في معرفة من قتلها، ثم احتكموا إلى سيدنا موسى عليه السلام، فبدأت قصة البقرة بوحي من عند الله عز وجل، لتكون البقرة بعد ذبحها وضرب القتيل بجزء منها آيةً لهم على إحياء الموتى بأن يقوم المقتول فيخبر عمن قتله.  وعلى هذا يكون الضمير في الآية الأخيرة في (اضربوه) يشير إلى القتيل، والضمير في (ببعضها) يشير إلى البقرة.

كل هذا هو المعروف السائد، لكن إذا رجعنا إلى ما ذكرناه من أن كل قصة مستقلة تبدأ ب (إذ)، فهل تكون هذه القصة قصتين مختلفتين؟ الحقيقة أن هذا رأي موجود رغم غرابته. قال به السيد رشيد رضا في تفسير المنار وقال به الشيخ عبد الوهاب النجار في “قصص الأنبياء” في مقرر درسه بجامعة القاهرة سنة ١٩٣٠.

ومختصر رأي الشيخ عبد الوهاب هو أن قصة البقرة قد انتهتعندما ذبحت البقرة، وأن العبرة بها كانت هي الانصياع للأمر، وعدم التشديد حتى لا يشدد عليهم، بالإضافة للعائد الذي أفاءه الله على أصحاب البقرة الفقراء. كما يرى أن قصة جديدة بدأت عند ذكر القتيل الذي قتلوه، ولم يعرفوا قاتله. فأرد الله أن يخرج ما يكتمون، فصدر الأمر بأن يضربوا كل مشتبه فيه (فاضربوه) بجزء من الجثة (يد القتيل) – (ببعضها). ويبين الشيخ النجار أن القاتل أكثر الناس جزعا خاصة عندما يجد نفسه ملامسا لجسد القتيل، وأن حاله سينبئ عن جريمته، وبحدوث هذا وانكشافه تحيا أرواح كثيرة و تقل شرور الجريمة (يحي الموتى) فالإحياء هنا يعني منع المسبب في الموت ابتدأ من مثل (ولكم في القصاص حياة). ثم يستشهد الشيخ النجار لرأيه هذا بكثير من شهادات علماء النفس والمحققين والقضاة، ويبين أن بالقصة حكمة يلاحظها المباشرون لقضايا القتل.

ومن نافلة القول أن الأزهر قديما شكل لجنة للرد على الشيخ النجار، وقد نقدته اللجنة في رأيه هذا، ولكنه رد عليهم ردا مفصلا. وهذا الرأي ونقده والرد على النقد كله مفصل في الطبعة الأخيرة لكتاب قصص الأنبياء. وما يعنيننا هنا هو أن اللغة لا ترد رأي النجار. بل ربما تقف معه إذا أخذنا في اعتبارنا مفهوم وتوارد لفظة (إذ) و تصور دلالة الضمائر والعوائد المرتبطة بهذه الضمائر.

والسؤال الآن هل تختلف ترجمات آيات قصة البقرة باختلاف هذا التأويل اللغوي؟ فلننظر ولنتفحص:

أول ترجمة تعرض لنا هي ترجمة محسن خان:

Mohsin Khan: And (remember) when you killed a man and fell into dispute among yourselves as to the crime. But Allah brought forth that which you were hiding. So We said: “Strike him (the dead man) with a piece of it (the cow).” Thus Allah brings the dead to life and shows you His Ayat (proofs, evidences, verses, lessons, signs, revelations, etc.) so that you may understand.

وفيها نلاحظ أنه تجنب استخدام الضمائر في الآية الأولى، واستخدم بدلا منها المدلول واضحا حتى لا يحدث أي لبس في الفهم، فترجم (النفس ) ب  man، وترجم الضمير في (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) بمعنى الحال as to the crime. أما الآية الثانية فقد أبقى فيها الضمائر ولكنه وضع بين القوسين ما تشير إليه بما يوافق قراءة واحدة للقصة. فقال عن أضربوه him (the dead man) و ببعضها  it (the cow).  وهذه هي الترجمة المعتمدة في مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، فالطبيعي فيها توضيح المعنى بما يوافق عموم التفاسير.

ثم نلقي نظرة على ترجمات يوسف علي و شاكير، ومحمد سرور.

Yusuf Ali: Remember ye slew a man and fell into a dispute among yourselves as to the crime: But Allah was to bring forth what ye did hide. So We said: “Strike the (body) with a piece of the (heifer).” Thus Allah bringeth the dead to life and showeth you His Signs: Perchance ye may understand.

Shakir: And when you killed a man, then you disagreed with respect to that, and Allah was to bring forth that which you were going to hide. So We said: Strike the (dead body) with part of the (Sacrificed cow), thus Allah brings the dead to life, and He shows you His signs so that you may understand.

Muhammad Sarwar: When you murdered someone, each one of you tried to accuse others of being guilty. However, God made public what you were hiding. We said, “Strike the person slain with some part of the cow.” That is how God brings the dead to life and shows you His miracles so that you might have understanding.

وهنا نجد أن الثلاثة تجنبوا الضمائر تماما، واستخدموا المدلول الذي يتفق مع تصور القصة الشهير دون أي لبس بسبب الضمائر، وفي هذا فقد كبير في الترجمة  translation loss حيث إن بالأصل ضمائر كثيرة قد تنصرف إلى أكثر من تصور. ولكنه قرار تفسيري اتخذه المترجمون لتجنب اللبس المحتمل عن عدم فهم الضمائر.

ثم نلقي نظرة على ترجمتي بيكتول والصحيحة الدولية.

Sahih International: And [recall] when you slew a man and disputed over it, but Allah was to bring out that which you were concealing. So, We said, “Strike the slain man with part of it.” Thus does Allah bring the dead to life, and He shows you His signs that you might reason.

Pickthall: And (remember) when ye slew a man and disagreed concerning it and Allah brought forth that which ye were hiding. And We said: Smite him with some of it. Thus Allah bringeth the dead to life and showeth you His portents so that ye may understand.

نلاحظ هنا أن الترجمتين اتخذتا كلمة  man ترجمة ل (نفس) باعتبار دلالة الضمير القادم في (فأضربوه)، لكن المترجمين وقعا في ورطة عندما جاءتهم(فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) لأن الضمير في (فيها) مؤنث لأن لفظة (النفس) في العربية مؤنثة وإن كانت تشير إلى قتيل ذكر. أما  man في الإنجليزية فلا تحتمل الأنوثة، لذا اضطر المترجمان إلى ترجمة الضمير في (فيها) ب  it  على اعتبار أن الخلاف حصل حول الجثة  corpse  وهي يشار إليها أحيانا ب it. ورغم هذا التخريج ما يزال النص مضطربا وملتبسا للقاري؛ لأن السؤال الطبيعي هو : لم لا يقولون  him طالما هو قتيل ذكر؟ والسبب هو أن النص الأصلي فيه إشارة المفردة المؤنثة للنفس وهذه الإشارة تصلح للعاقل المؤنث  المجازي (النفس) كما تصلح لغير العاقل (الجثة).

لكن الاضطراب يبلغ مداه عندما يعود المترجمان في الآية التالية ويشيران إلى القتيل ب  him(اضربوه)  ويشيران إلى شيء مبهم ب  it، فلا يدري القارئالآن علام تعود  it؟ هل على الجثة كما في الآية السابقة ؟ إذن من يكون  him؟ هل شخص آخر لم يذكر؟ وإذا كان لم يذكر فكيف نشير إليه بضمير الآن؟

آخر ترجمة نلقي عليها نظرة هي ترجمة أربري:

Arberry: And when you killed a living soul, and disputed thereon — and God disclosed what you were hiding – so We said, ‘Smite him with part of it’; even so God brings to life the dead, and He shows you His signs, that haply you may have understanding.

ولأن الرجل لغوي في المقام الأول، فهو يدرك ورطة الضمائر والإحالات ما بين العربية والإنجليزية؛ لذا أفلح بترجمة (نفسا) ب  a living soul لأنها بذلك يمكنه أن يشير إليها ب  it  بسهولة دون مشكلة في الفهم أو التصور. العجيب أنه لم يفعل! ورغم عدم وجود أية مشكلة في إشارته إلى هذه الروح التي قتلت ب  it فإنه اختار أن يترجم الضمير في (فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا) بمعنى الحال  thereon وبإسقاط الضمير تماما. وبذلك قلل من اللبس، لكنه في الآية الثانية لم يجد بدا من أن يترجم الضمير في (فاضربوه) ب  him والضمير في (ببعضها) ب  it تاركا التصور للقاري لمعرفة أن  a living soul كان رجلا يشار إليه ب  him ولكن تبقى  it  معلقة لا ندري إلى أي شيء تشير.

وأغلب ظني هو أن المترجمين جميعا لم يسمعوا بالتأويل الآخر للمعاني واعتبار القصة قصتين لا قصة واحدة. فلو عرفوا بذلك لربما أضافوا بين القوسين الدلالات المختلفة التي تحتملها الضمائر.

وسواء وافقنا الشيخ النجار والسيد رشيد في اعتبارهما القصة قصتين أم لم نوافقهما، فإن عمل المترجم بالضرورة لابد أن ينطوي على اتخاذ قرار تفسيري للقارئ؛ وهذا ما اتخذه محسن خان مع أمانة للنص بذكر الضمائر، وما فعله يوسف علي وشاكير، ومحمد سرور، مع تضحيتهم بجزء من الأصل بإسقاطهم للضمائر جميعا. أما الصحيحة الدولية وبكتولوأربري فقد تحيروا بين الحفاظ على بنية الأصل (الأمانة للأصل) والحفاظ على المعنى المكتمل (الأمانة للقارئ) فآثروا الأولى على الثانية، على اعتبار أن القارئ سيلجأ إلى التفاسير إذا لم يفهم. وعندي أن الترجمة الأفضل هي التي تلتزم معنى واضحا مرجحا كما فعل خان، مع إشارة في الحاشية إلى الاحتمالات الأخرى التي لا تتضارب مع المعنى الأول.

والله أعلى وأعلم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى