كيف بدأ الخلق؟ .. رحلة العلم والعقل (3)

محمد عبد العظيم العجمي | كاتب مصري

هل آن للعلم بعد هذه الرحلة العقلية الضاربة في أرجاء الكون وآفاقه، وقد وقف فيها على كثير من تفاصيل الخلق، وطابق بين نظرياته وبدعة الصنع وإتقانها، فلم يكن ثمة تعارض يذكر بين هذه المعادلات الرياضية والفيزيائية والحقائق البيولوجية، وتلك الحقائق الكونية والقرآنية التي أيد كل منها الآخر والمشيدة على أعلى درجة من دقة الإحكام والإتقان”الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)”[الملك].

لقد أزال العلم كثيرا من عجمة بدء الخلق، وأذعن عقله ـــــ كثيرا منه ــــ إذعان المؤمن، وإن كان إيمان العاجز الذي أحاطت به البراهين من بين يديه ومن خلفه فلم يستطع إلى جحدها أو ضحدها سبيلا، فأقر بأن هذا لن يكون أبدا من خلق الصدفة ولا الطبيعة، ولا يصلح معه حتى جحود المنكرين الأوائل..

فحين أنكر الأولون الخلق وإعادته وإن كانوا على بينة من صدقه، فإنهم لم يملكوا من العلم وأدواته ما يعزز حجتهم، ولما جاء  العلم بأدواته، ثم أوغل في البحث والدرس قاصدا أن يحادد الخالق الفاطر، لم يجد بعد استفراغ الجهد وإجهاد العقل إلا طريقا واحدة تصل في نهايتها إلى خالق الكون، وتثبت حجية هذا الكتاب القديم الذي مضى عليه أكثر من ألف وأربعمائة عام .. وقد ظن الباحثون والمرجفون أن مكانه لم يعد إلا أن يوضع على رف في أحدى المكتبات التاريخية، فإذا به يحوي بين طياته جماع الحقائق التي وصلوها بعد السير والنظر والتحقق.

بل مما حققه العلم في بحثه في خدمة هذه المعضلة (بدء الخلق) أنه أثبت أن الأمر لم يكن عن إعجاز يوقف العقل أو يقهره، أو يعزب عن الفهم، إنما كان عن قوانين وهندسة وحكمة بالغة، استطاع العقل أن يسير معها حتى يطابق بين معادلاته وقوانين الكون فإذا بأحدهما يحقق الآخر ويثبته ..

مما ذكره د. عمرو شريف ـ في كتابه “رحلة عقل” عن هؤلاء الذين ساروا مع الفيزياء النظرية والفلكية في رحلة بحث طويلة مضنية، بل ونسب إلى بعضهم الإنكار أو الإلحاد لكن الكثير منهم يعلن صدق كوانين الكون ودقتها..

[“فهذا عبقري الفيزياء الحديثة (ستيفن هوكنز) يقول:”إذا كانت هناك معادلات تشيرإلى احتمالية نشأة شيء من لاشيء، فستظل هذه المعادلات في حاجة إلى من ينفخ فيها القدرة على الفعل، فالمعادلات لا تخلق لكنها تصف الفعل”.

ويقول”إن توصلنا إلى معادلات تشرح كيف بدأ العالم، لا يعني أن الإله غير موجود ، ولكنه يعني أنه لم يخلق الكون عشوائيا، ولكنه خلقه تبعا لقوانين”.

ويقول “يؤمن إينشتين أن من يفهم الطبيعة يعرف الله، ليس لأن الطبيعة هي الإله ــــ كما يقول اسبينوزا ـــ لكن لأن مافي الطبيعة من قوانين يشير إلى عقل جبار يقف وراءها وعلى عقل الإنسان أن يكون شديد التواضع أمام عظمة هذا الإله وحكمته”.

ويقول “فريمان ليسون” الفيزيائي الشهير”كلما ازدات معارفنا التي تظهر التطابق بين بنية الكون وبين احتياجاتنا، ازداد شعوري أن الكون قد أعد لاستقبالنا”.. وهذا يصدق قول القرآن في أكثر من موضع (خلق لكم)،و (سخر لكم).

أما أينشتاين: فيشبه المعرفة العلمية عن الكون بطفل صغير داخل مكتبة ضخمة مليئة بمجلدات كتبت بلغات عديدة، يدرك الطفل يقينا أن كتابا كتبوا هذه الكتب، ولكنه لا يعرف كيف، ولا يفهم اللغات التي كتبت بها، كما يدرك أن الكتب قد رصت داخل المكتبة بنظام ما .. لكنه لا يعرفه”]. (انتهى).

وفي قوله تعالى ” وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ”[الذاريات]، هذه ال(آيات) هي الدلائل والبراهين القاطعة التي تأتي مصاحبة للتصديق على حقيقة أو دعوة ما، وهي تصل بالعقل إلى درجة (علم اليقين) بدليل قوله (للموقنين).. هذا العلم الذي لا يدع مجالا للشك أو احتمالية الظن بدرجة من درجاته، لكنه لا يترك العقل حتى يقف به على الشواهد التي تقطع بحقيقته، وهذا ما حدث مع العلماء السابقين وغيرهم من أرباب العلم بعد السيرفي الكون بغية معرفة “كيف بدأ الخلق”!!.

قال القرطبي في تفسيره: “فَمِنْهَا عَوْدُ النَّبَاتِ بَعْدَ أَنْ صَارَ هشيما، ومنها أنهقدرا لأقوات فِيهَا قِوَامًا لِلْحَيَوَانَاتِ، وَمِنْهَا سَيْرُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي يُشَاهِدُونَ فِيهَا آثَارَ الْهَلَاكِ النَّازِلِ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ. وَالْمُوقِنُونَ هُمُ الْعَارِفُونَ الْمُحَقِّقُونَ وَحْدَانِيَّةَ رَبِّهِمْ، وَصِدْقَ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ، خَصَّهُمْ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَتَدَبُّرِهَا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) قِيلَ: التَّقْدِيرُ وَفِي الْأَرْضِ وَفِي أَنْفُسِكُمْ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمَعْنَى مَنْ سَارَ فِي الْأَرْضِ رَأَى آيَاتٍ وَعِبَرًا، وَمَنْ تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ خُلِقَ لِيَعْبُدَ اللَّهَ.

هكذا.. مع استعراض أقوال المفسرين من علماء اللغة والنحو وأهل الزمان الأول،لا نلمس كذلك ثمة تعارض بين قولهم بما ملكوا من أدوات بسيطة، وما توصل إليه علماء القرن الواحد والعشرين بما حققوا من قفزة علمية وتقنية وبحثية .. حيث العقل والعلم هما أداة التحقق، ولن يجدا مع طول البحث إلا يقينا يوحي بأحدية المصدر في الخلق والتنزيل. “فأنى يصرفون”؟!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى